الكثير من المداخلات كانت معدة سلفاً مما أفقدها الكثير من المصداقية والتفاعلية والمباشرة, وغلب عليها الطابع الإنشائي, وقد برزت هذه الإشكالية الخطيرة بشكل أكبر لدى بعض الإعلاميات, حيث جاءت مداخلاتهن رتيبة ومكررة ومليئة بالتعريفات والمصطلحات

الكتابة عن واقع الإعلام السعودي ــ الطموحات والتحديات والمستقبل ــ تُمثل لنا نحن معشر الكتاب المعين الذي لا ينضب, بل هي أشبه بقدر نفر منه ولكن سرعان ما نعود له, فلا يكاد يمر أسبوع أو أكثر إلا ويكتب أحدنا عن الإعلام السعودي, سواء بشكل مباشر أو غير مباشر, والإعلام بمختلف أشكاله ومستوياته, كما جاء في الأدبيات الإعلامية, يُمثل السلطة الرابعة, بل إن الأحداث الأخيرة التي عصفت بالعالم, وخاصة العالم العربي, جعلت من الإعلام ــ خاصة الإعلام الجديد ــ يتصدر المشهد العالمي كسلطة أولى, متقدماً على السلطات الثلاث, التشريعية والتنفيذية والقضائية.
قبل عدة أيام, وبدعوة كريمة من مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني, تشرفت بالمشاركة في اللقاء التحضيري الثاني بالمنطقة الشرقية والذي حمل عنواناً غاية في الأهمية وهو الإعلام: الواقع وسبل التطوير ــ حوار بين المجتمع والمؤسسات الإعلامية, وتسبق مثل هذه اللقاءات التحضيرية المتعددة اللقاء الوطني التاسع للحوار الفكري والذي سيُقام في نهاية العام الجاري. أكثر من 8 ساعات متواصلة تقريباً, كانت حافلة بالعديد من المحاور والمواضيع والرؤى والنقاشات الساخنة والتي تجاوزت في الكثير من الأحيان الرصانة والحكمة والهدوء الذي يتصف به هذا المركز الحضاري الرائع, ورغم وجود بعض الشرائح المختلفة التي تُمثل المجتمع السعودي, إلا أن الإعلاميين استطاعوا كعادتهم السيطرة على مجريات هذا اللقاء, سواء بمداخلاتهم الصريحة أو اقتراحاتهم المثيرة. ومما يُحسب لهذا اللقاء الوطني هو مشاركة مجموعة مميزة من طلاب وطالبات التعليم العام والجامعي مما أضفى حالة من الشبابية والرشاقة والشفافية والحماس في تلك القاعة الفخمة التي تعج ــ كالعادة ــ بالمخضرمين من النخب والمسؤولين.
إنها المرة الأولى التي أشارك فيها في هذه اللقاءات المنبثقة من مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني, وكم أتمنى ألا يتسبب هذا المقال في غيابي عن المشاركة في اللقاءات القادمة. ومما يدفعني للكتابة بشيء من الحرية والشفافية, هو الرغبة الصادقة التي لمستها ــ بل لمسها كل المشاركين ــ من قبل المنظمين لهذا اللقاء للوصول إلى أعلى مستويات الصدق والوضوح والشفافية عن واقع الإعلام السعودي لتقدم كل الأفكار والرؤى والمقترحات للمتخصصين وصُنّاع القرار. وقد أكد كل ذلك, صراحة وسخونة وجرأة بعض المداخلات والتعليقات الصادمة والمفاجئة, والتي كانت في أغلبها ضد الكثير من التابوهات والمسلمات والقناعات التي تُهيمن على فكر ومزاج المجتمع السعودي. حرية الإعلام السعودي, واقع الإعلام الرسمي, فوبيا الإعلام الجديد, أسلمة الإعلام, إعلام الطفل, الكوادر الإعلامية السعودية, أجور الإعلاميين السعوديين, المظهر الخارجي للإعلاميات السعوديات, الخطاب الإعلامي السعودي, لائحة النشر الإعلامي, فصل الإعلام عن الثقافة, العلاقة بين الإعلام والدين, الإعلام الممول سعودياً, هوية الإعلام السعودي, هجرة الإعلاميين والإعلاميات السعوديات, والكثير الكثير من المحاور والقضايا التي نوقشت بجدية وشفافية وتابعها ــ كما أظن ــ الكثير من المشاهدين, لأن هذا اللقاء بكل جلساته الأربع بث على الهواء مباشرة عبر القناة الثقافية السعودية.
والآن, وبعد هذه المقدمة المتفائلة, أسجل بعض الملاحظات التي رصدتها على عجل خلال مشاركتي في ذلك اللقاء الرائع. الكثير من المداخلات كانت معدة سلفاً مما أفقدها الكثير من المصداقية والتفاعلية والمباشرة, وغلب عليها الطابع الإنشائي, وقد برزت هذه الإشكالية الخطيرة بشكل أكبر لدى بعض الإعلاميات, حيث جاءت مداخلاتهن رتيبة ومكررة ومليئة بالتعريفات والمصطلحات. الطابور الطويل من المتحدثين والمتحدثات سبب حالة من الكسل والرتابة والتكرار لدى غالبية المشاركين, وكم كان أجدى, لو كان النقاش حول طاولة مستديرة ــ واحدة للإعلاميين وأخرى للإعلاميات, وذلك منعاً للاختلاط! ــ تتقاطع فيها الأفكار وتتداول فيها الرؤى بشكل رشيق ومتبادل وتفاعلي, بعيداً عن الثلاث دقائق التي تُعطى لكل متداخل. الغياب المدهش للكثير من المدعوين لهذا اللقاء الوطني الهام أثار العديد من علامات الاستفهام والتعجب, التكهنات والتخمينات التي تداولها المشاركون والمشاركات بخصوص هذا الغياب المثير كثيرة جداً, فقط المنظمون لهذا اللقاء يملكون الإجابة الشافية!. أيضاً, بماذا يُفسر المنظمون لهذا التظاهرة الإعلامية الكبيرة غياب الرؤية الواضحة لهذا الملتقى, حيث كان من المفترض أن تكون هناك ورقة عمل تعريفية يُقدمها المركز لتكون بمثابة البوصلة التي تضبط الجلسات, ورقة عمل ترسم السياسة العامة للقاء, وتحدد الأهداف البعيدة والقريبة, وتضع التعريفات والمفاهيم المناسبة للكثير من التفاصيل الإعلامية حتى لا يكثر اللغط والجدل حولها, وهذا ما حدث فعلاً في الكثير منها, خاصة مصطلح الإعلام الجديد الذي كان مثار خلاف ونقاش, ورقة عمل تُشير إلى بعض الأرقام والإحصائيات والدراسات حول الإعلام بمختلف ألوانه ومستوياته لتضع ــ أي تلك الورقة ــ المشاركين والمشاركات أمام خريطة واضحة المعالم والتفاصيل ليكون اللقاء أكثر فائدة ومتعة, سواء للمشاركين أو المنظمين. لماذا اختزل المفهوم الواسع والشامل للإعلام في شريحة الكتاب والمهتمين بالإعلام الجديد؟, ألا يُمثل المسرح والدراما والسينما والموسيقى وباقي الفنون الإعلام السعودي بشكل أو بآخر؟ لماذا غاب الفنانون والممثلون والمشتغلون بالدراما والمسرح عن هذا اللقاء؟, علماً بأن المنطقة الشرقية ــ على سبيل المثال ــ تزخر بالكثير من الفنانين والمسرحيين والأدباء. النقاط كثيرة, ولكن هذا ما سمحت به هذه المساحة المحدودة.
إن تجربة الحوار الوطني التي تبناها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ عدة سنوات في طريقها للتجذر والتبلور, لأن الحوار المسؤول أداة حضارية للتواصل الإنساني على كافة الصعد. ومركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني يقوم بجهود رائعة وواضحة لتكريس مبدأ الحوار, وإشاعة ثقافة الرأي والرأي الآخر في المجتمع السعودي, وما يتمتع به هذا الوطن المترامي الأطراف من تنوع ثقافي واجتماعي يدعو للتكامل والتلاحم, لا إلى الاختلاف والتشرذم. هذا الوطن الكبير يسعنا جميعاً, بما حباه الله من قدسية وخيرات وثروات, فلنحافظ عليه.