الإقبال الواسع على مؤلفات أركون دعا لترجمتها إلى عدد من اللغات العالمية
بعدما شهد النصف الثاني من العام الحالي رحيل ثلاثة من أبرز المفكرين والمبدعين العرب هم الدكتور غازي القصيبي، والدكتور نصر حامد أبو زيد، والطاهر وطار، الآن يهز نبأ وفاة المفكر العربي الكبير محمد أركون الأوساط الثقافية الفرنسية والعربية على حد سواء.
فبعد صراع مع المرض تم الإعلان الثلاثاء المنصرم عن رحيل صاحب دعوة ضرورة مواجهة تردي الفكر العربي والإسلامي. حيث قضى أركون سنوات عمره الأخيرة في البحث في مجالي الفكر والتراث الإسلاميين، وظل دائما ينادي بتنوير العقل العربي وتبديل شتاته الحالي بذات القيم التي تسيدت العصر الإسلامي الذهبي حتى القرن الثالث عشر.
وفي أول ردة فعل عربية أعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى عن حزنه العميق لرحيل الباحث والمفكر الجزائري البارز في بيان صحفي صدر عن المكتب الصحفي للأمين العام أعرب موسى خلاله عن تعازيه ومشاطرته أسرة الفقيد الكريم والأمة العربية أحزانهم داعيا الله عز وجل أن يسكن الفقيد فسيح جناته. كما قامت كافة وكالات الأنباء العربية والغربية تقريبا ببث خبر وفاته. وإلى جانب وسائل الإعلام الفرنسية أفسحت إذاعة هولندا العالمية مساحة لائقة بمكانة الراحل، خصوصا وأن أركون قد عمل لمدة عام تقريبا كأستاذ زائر في جامعة أمستردام وقد خاض وقتها حوارا طويلا وموسعا مع السياسي الليبرالي الهولندي البارز فريتس بولكستاين حول الإسلام وعلاقته بالديموقراطية والعقلانية، وحول العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي. وقد صدرت تلك الحوارات باللغة العربية في كتاب حمل عنوان الإسلام، أوربا والغرب، واعتبره كثيرون في هولندا، واحداً من المصادر الأكاديمية الأساسية، التي تضع قاعدة أكاديمية للجدل الدائر حول الإسلام في الفضاء الأوروبي. كما اهتمت مؤسسة دويتشه فيله الإعلامية الألمانية بأن يتصدر خبر رحيل المفكر العربي صدر أخبارها الثقافية فور الإعلان عن رحيله.
ويؤكد كافة المثقفين العرب المقيمين في باريس على أنه بالرغم من أن معظم مؤلفات أركون قد صدرت باللغة الفرنسية، إلا أن الإقبال الواسع عليها دعا إلى ترجمتها إلى عدد من اللغات العالمية. فمن المعروف أنه قد تناول في أبحاثه موضوع التعامل مع الإرث الثقافي والحضاري للشرق والغرب والنظر إليهما دون انفصال، معتبرا أن مهمته الأساسية هي الوساطة بين الفكر الإسلامي والفكر الأوروبي. إلا أنه انتقد النظرة الغربية السلبية تجاه المثقفين المسلمين عامة، رغم انتقاد هؤلاء لمظاهر التشدد الديني.
وهذه الآراء قد عرضت المفكر الجزائري - الفرنسي محمد أركون، خصوصا تلك الداعية إلى قراءة حضارية جديدة للقرآن، إلى انتقادات عنيفة من قبل التيار الإسلامي المتشدد، وأيضا من طرف مستشرقين فرنسيين، على الرغم من اعتبار العديد من المثقفين الفرنسيين أن أركون ينتمي إلى جيل ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرانسوا فوريه وهم الذين أحدثوا ثورة إبستمولوجية ومنهجية في الفكر الفرنسي.
وبحسب مترجم وشارح أعمال أركون هاشم صالح، تعاني المجتمعات العربية من قطيعتين لا قطيعة واحدة. الأولى، مع تلك الفترة المبدعة من تراثها الإسلامي والتي بدأت بسيطرة السلاجقة على الحكم (بداية القرن الحادي عشر الميلادي) حيث انتشر الفكر المدرساني (الاجتراري/ التكراري) القائم على نشر مذهب واحد وإغلاق الباب أمام الأفكار الحرة والاجتهادات التي أسست لفكر إنساني إسلامي (حداثي في وقته) وفيه تصالح مع العقل. كما تعاني المجتمعات العربية والإسلامية أيضا من قطيعة مع عصر النهضة الأوروبية والحداثة. ويذهب البعض أيضا إلى إضافة قطيعة ثالثة، وهي القطيعة مع مرحلة ما بعد الحداثة الأوروبية. لذلك تبدو مشكلة المثقف العربي (الطامح في التغير) في غاية التعقيد.
إذ كان أركون يرى أن الإصلاح الآن غير ممكن باستعمال الوسائل الفكرية القديمة، وأن على حركة التنوير الإسلامية المنتظرة أن تجيب على سؤال محير: هل نحتاج إلى إصلاح المفاهيم القديمة، أم أن الحل يكون بالقطيعة معها؟.
ومما يذكر هنا أن أركون قد ترك مكتبة ثرية بالمؤلفات والكتب، من أهم عناوينها، ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي، دراسات الفكر الإسلامي، الإسلام أمس وغدا، من أجل نقد للعقل الإسلامي، الإسلام أصالة وممارسة، الفكر الإسلامي: قراءة علمية - الإسلام: الأخلاق والسياسة - الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية. إلى جانب مشاركته المتميزة في اجتماع المفكرين والأكاديميين والعلماء والمغتربين العرب الذي عقد في مقر الجامعة العربية في نوفمبر من عام 2001 إثر أحداث سبتمبر في نيويورك وكان له إسهام كبير في صياغة الموقف العربي إزاء تلك التطورات الخطيرة.
هذا ومما هو معروف أن المفكر الراحل قد ولد في 1928 بقرية تاوريرت ميمون في تيزي وزو (منطقة القبائل) قبل أن ينتقل مع عائلته إلى مدينة عين تيموشنت حيث تابع دراسته هناك. وأكمل بعد ذلك دراسته الثانوية في وهران، ثم التحق بكلية الفلسفة في جامعة الجزائر لينهي دراسته الجامعية بجامعة السوربون في باريس حيث حصل على شهادة الدكتوراة في الآداب. كما عمل أركون مدرساً بعدة جامعات في أوروبا وأمريكا.