هذا التداخل الفقهي التنموي، كان بإمكانه أن يصنع رؤية واعية توازن بين القيم العامة دينية وثقافية واجتماعية لو أنه انطلق من وعي جديد وبعيد عن الخوف واستخدام الأدوات الفقهية القديمة في التعامل مع واقع حديث

على الإطلاق لم تكن مشكلة البطالة مثلا مجرد مشكلة إدارية فقط، إنها مرتبطة بالذهنية الثقافية والاجتماعية العامة. والتجارب التنموية في مختلف دول العالم تثبت أن جانبا كبيرا من عملية التوظيف يقع في قطاع الخدمات، وهو الذي يصنع في كل مجتمع طبقته الوسطى القادرة على حفظ اتزانه ونموه، وفي الصين مثلا تجاوز عدد العاملين في قطاع الخدمات ما يزيد عن مئتي مليون موظف وموظفة، في قطاعات خدمية تتنوع بين التجارة والبيع والسياحة والبنوك والمحاسبة والنقل والمواصلات وإدارة العقارات وغيرها.
وكلما تراجع العمل في هذه القطاعات أصبح وجود البطالة أمرا قائما وعصيا على مختلف المعالجات الإدارية، لكن العمل في هذه القطاعات مرتبط على مستوى البنية بحد ما بالانفتاح والحريات وتحكم الشرط المدني وشرط المصلحة، أكثر من كونه خاضعا للشرط الفقهي، وبمجرد أن تتدخل الرؤى الشمولية في إدارة عملية التنمية والبناء الاقتصادي، تتراجع الحريات الاقتصادية ويصبح شرط الجدوى والفائدة وسد الحاجة مجرد هدف ثانوي أمام شروط الجائز وغير الجائز، ومن هنا يمكن قراءة جانب من أزمة البطالة في المملكة العربية السعودية، وكيف تحولت الحلول والمعالجات المطروحة إلى قضايا فقهية بينما هي في الأصل قضايا تنموية.
هذا التداخل الفقهي التنموي، كان بإمكانه أن يصنع رؤية واعية توازن بين القيم العامة دينية وثقافية واجتماعية لو أنه انطلق من وعي جديد وبعيد عن الخوف واستخدام الأدوات الفقهية القديمة في التعامل مع واقع حديث ومغاير، يحتاج بكل تأكيد إلى لغة جديدة وأدوات جديدة تنتج مواقف أخرى خلاف التحريم والرفض والممانعة.
تلك الممانعة ربما وجدت لها مساحة من الزمن تستطيع فيها أن تحقق مكاسب بفضل وجود اقتصادي ريعي أبوي، ربما صمد لفترة من الزمن، إلا أن التحديات التي تتوالى على مجتمعنا وعلى مختلف المجتمعات وبفعل النمو السكاني ونضوب الوظائف والأعمال التقليدية وصعود قيمة الفرد إنتاجيا، كلها عوامل أثبتت أن انتصار الممانعة في تأثيرها في الاقتصاد والتنمية أمر لا يمكن استمراره.
في عام 1425 للهجرة، صدر قرار من مجلس الوزراء يقضي بتأنيث العمل في محلات الملابس النسائية، وهذه معادلة منطقية وعقلانية بل وضرورية على المستوى الأخلاقي وعلى مستوى الذوق، بل ويمثل هذا القرار لحظة مؤثرة جدا أظهرت حالة الهلع التي تغشت الموقف الفقهي وجعلته ينتج ممانعة ورفضا، لم يستطع حتى الشارع أن يتقبلها، ناهيك عن قدرته أن يدافع عنها أو يتبناها، وكان بإمكان مختلف الدوائر الفقهية أن تقدم نموذجا واعيا على الأقل ترفع به عن كاهل نسائنا هذا العيب المقنن الذي يعشنه وهن لا يجدن خيارا سوى شراء ملابسهن الداخلية من أيدي رجال، وفي مشهد لا يكاد يتكرر في أكثر بلدان العالم انفتاحا.
ثم ما الذي حدث بعد ذلك؟ فقط انزل للشارع واسأل المارة عن رأيهم في هذا المشهد، ثم لاحظ استغرابهم وخيبة أملهم حين يواجهون حقيقة أن رأيا فقهيا هو الذي كرس هذا العيب ودافع عنه وجعل نساءهم وبناتهم في هذا الموقف الباعث على الاشمئزاز، حتى تحول تأنيث العاملين في محلات الملابس النسائية من كونه مطلبا اقتصاديا ليصبح مطلبا اجتماعيا وأخلاقيا، وفي مفارقة ساخنة أصبح الشارع يسعى للحفاظ على أخلاقه وحمايتها من المحافظة العمياء التي باتت تنتج خلاف ما تدعو إليه.
حين صدرت القرارات الملكية مطلع هذا الأسبوع كانت تضم حزمة من الإجراءات والقرارات تميزت عن غيرها بأنها أوضحت الجهات المعنية بتنفيذ وتطبيق كل قرار، وبأنها وضعت مددا زمنية واضحة للتنفيذ، وهما ميزتان تسهمان في إنقاذ القرارات مما قد يعتريها، والمتمثل أولا في ضياعها بين الوزارات وتحميل كل جهة المسؤولية على الأخرى، وثانيا أنها تربطها بمدة زمنية تحميها من البيروقراطية التي لا تقيم حسابا للزمن، لكن القيمة الأبرز في كل تلك القرارات أنها وطنية ومستقبلية وعادلة، ولم يكن قرار تنفيذ القرار السابق المتعلق بقصر العمل في محلات الملابس النسائية سوى تكملة لحزمة من الإجراءات التي تمثل مشروعا متكاملا، لا يقيم حدودا لفرص العمل، بل وينتصر للقيم الثقافية والدينية الأصيلة التي تجعل من العمل والكسب جوانب عليا في حياة الإنسان وقيمته بغض النظر عن جنسه وقدراته، ومنطق الدولة الحديثة يفرض حق الجميع في الحصول على عمل مهما كانت مؤهلاتهم.
بكل تأكيد سوف يكون السعوديون أكثر ارتياحا إذا ما وجدوا خطابا فقهيا قادرا على استيعاب المتغيرات، إلا أنهم وفي حال افتقدوا إلى ذلك، فهم يدركون أن لديهم من الوعي والالتزام ما يجعلهم فقهاء أنفسهم، والقادرين على معرفة الصواب من الخطأ.