نسيت حرفية مقولة لجابريل غارسيا ماركيز، لكني أذكر معناها، وهي أنه كان كلما ذهب لزيارة أصدقائه في اليابان وجلس معهم فإنه يعدهم من حين لآخر، لأنه لا يدري في أي وقت يمكن أن ينتحر أحدهم. والمقولة في ظاهرها طريفة، لكنها في عمقها تحمل بعداً آخر تماماً، فاليابانيون الذين يدينون بعقيدة الشنتو يؤمنون بأنه يلزم المرء أن يطهر نفسه من الأخطاء باستمرار، كيف تكون روحه خفيفة، يمكنها أن تحوم حول الأنهار وفي الغابات وعلى قمم الجبال بعد الموت، والانتحار لديهم درجة عالية من التطهّر، كما أن للانتحار لديهم بعده التاريخي الشجاع، الآتي من الطيارين الانتحاريين (الكامي كاز)، الذين واجهوا الأمريكان بكل ضراوة في الحرب العالمية الثانية، لذلك فمهما يكن الانتحار شيئاً كريهاً وعلامةً فجّة ورهيبة على الضعف والعجز عن مواجهة الوجود، إلا أنه لا يأخذ هذا المنحى عند اليابانيين بحال!.
الياباني ياسوناري كاواباتا، وبعد نيلة جائزة نوبل بأربع سنوات، وبعد أن ضربت رواياته كل جهة في هذا العالم، وُجد ميتاً في شقة صغيرة، في العام 1972 ولم يتوان الإعلام الياباني، ولا أصدقاؤه باعتبار ميتته تلك إنما كانت انتحاراً حزيناً من جهة.. وشجاعاً من جهة، وفي كلا الحالتين فانتحار كاواباتا - إن كان صحيحاً - فإنه بلا ريب يرجع إلى التعاسة الفكرية الرهيبة التي كان يعيشها، التعاسة التي يعيشها المسنون، وعبر عنها بأشهر أعماله على الإطلاق الجميلات النائمات.
http://www.youtube.com/ watch?v= vDklECMtyyg
رواية الجميلات النائمات، التي بلغ تأثيرها أن كان ماركيز أحد مريديها، فكتب على غرارها روايته ذاكرة غانياتي الحزينات التي لم تكن سوى وليدة جاءت من رحم الجميلات النائمات باعتراف ماركيز نفسه.
كاواباتا يتحدث عن عجوز يدعى إيغوشي ترهق روحه مأساوية حياته، ليجد متنفساً لمراراته في نزلٍ لرذيلةٍ غريبة، تحفظ له كبرياء العجز الذي يواجهه كبار السن المجروحون في رغباتهم، فينام إلى جوار فتيات بغاية الجمال، لكنهن لا يشعرن به، لأنهن تحت تأثير المنوّم، والذي يحدث أنه يقضي الليل في تأملهن، والذهاب بعيداً في جحيمه الداخلي، نحو ذكرياته، نحو الطفولة والعدم، نحو الأفكار والموتى، نحو الحياة التي توشك أن تتجاوزه وترميه وراء ظهرها وتمضي!.
يقول كاواباتا: لعل إغواء الشر الذي أحسه يتململ في قلبه، هو ردة فعل مبعثها الفتاة، غير أن هذا الإثم، هذا الشيء الفظيع المصحوب برعب يرتعد، كان يطفو على روح إنغوشي دون أن يتخذ شكلاً محدداً.