ليس الاتحاد الكونفدرالي حلماً خادعاً أو أمنية خيالية لمجلس التعاون الخليجي، لكن هناك مقدمات ومطالب وشروط رئيسية حتى تصل لهذا الخيار، فالمراقب للمشهد السياسي يدرك وبوضوح أن العمل المؤسسي في مجلس التعاون الخليجي ما زال في إطار ضيق
كثر الكلام في الآونة الأخيرة وفي خضم الأحداث والتطورات السياسية التي تعيشها منطقة الخليج على كافة الأصعدة حول الدعوة لـتأسيس كونفدرالية خليجية بشكل عاجل نتيجة وجود مطامع خارجية من هنا وهناك، هذه الدعوة المستعجلة لطالما كان ينادى بها الدكتور عبدالله النفيسي، لتنفيذ الاتحاد الكونفدرالي الخليجي بالتنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي في مجال الدفاع المشترك والسياسة الخارجية المشتركة مع احتفاظ كل دولة بسيادتها المستقلة.
صحيح وبدون أدنى شك أن مشاعر الولاء والانتماء للمشروع الوحدوي في المنظومة الخليجية هو محل تقدير واعتزاز، والتي كانت تتمظهر في الماضي القريب في الاحتفالات السنوية لمؤتمرات مجلس التعاون الخليجي وأغنية خليجنا واحد وشعبنا واحد، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يصح لنا أن نتحدث عن اتحاد كونفدرالي خليجي بالمعنى الحقيقي للكلمة وفي ذات الحال نقوم بتجريده عن سياقه التاريخي خلال ثلاثة العقود الماضية والمتمثل في تجربة مجلس التعاون الخليجي؟ بعبارة أخرى: هل دول مجلس التعاون الخليجي تملك أرضية صلبة وأساساً متيناً من الممكن أن تقوم عليه الكونفدرالية الخليجية؟
صحيح أن واقع المنطقة الخليجية اليوم وفي الفترة الراهنة أشد تعقيداً من الفترات الماضية وأوضاعها أبلغ صعوبة من أوضاع المناطق الأخرى؛ نتيجة لموقعها الإستراتيجي وثروتها النفطية في بعدها الإقليمي، لكن هذا ليس مسوغاً أبداً كردة فعل أن نصل إلى هذه النتيجة المتقدمة ( كثيراً) لمجلس التعاون الخليجي في عمل اتحاد حقيقي قياساً بالاتحادات العالمية كالاتحاد الأوروبي مثلاً، والسبب بالطبع لا يرتبط بشخوص المجلس بل فيما يُقدم المجلس من أعمال تؤهله لعمل اتحاد كونفدرالي حقيقي.
لنلقي الضوء قليلاً على تجربة الشعوب الأوروبية ومسيرتها التاريخية وتدرجها المرحلي حتى تبلور الاتحاد الأوروبي بشكله القائم، هذه الشعوب خاضت حربين عالميتين فيما بينها خلال نصف قرن من الزمن، أصابتها أفظع المآسي وأفدح الخسائر البشرية والاقتصادية، عدا الآثار السياسية والاجتماعية.
لكن الأوروبيين تجاوزوا كل ذلك الواقع الأليم، انطلاقاً من إدراكهم لمصالحهم، وصنعوا وحدتهم بواقعية وتدرُّج، وليس كردة فعل سريعة، ولم تمنعهم من وحدتهم اختلافاتهم الدينية والقومية والسياسية، فالاتحاد الأوروبي يوجد فيه تنوع قومي ولغوي وثقافي ومذهبي؛ حيث يبلغ عدد اللغات الرسمية فيه 23 لغة، ومذاهبهم هي الكاثوليك، والأرثوذكس، والبروتستانت، ويضم الآن 27 دولة، وله سوق موحدة، وعملة موحدة هي اليورو، تبنت استخدامها إلى الآن 13 دولة من الدول الأعضاء، وله سياسة مشتركة على الصعيد الإعلامي والزراعي والبحري.
ولم تحدث هذه التجربة (الاتحاد الأوروبي) من فراغ، ولا بشكل مفاجئ، بل سبقتها محاولات متكررة في تاريخ القارة الأوروبية لتوحيد اسم أوروبا، فمنذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، مروراً بإمبراطورية شارلمان الفرنكية، ثم الإمبراطورية الرومانية المقدسة اللتين وحدتا مساحة شاسعة لمئات السنين، قبل ظهور الدولة القومية الحديثة. وفيما بعد حدثت محاولات لتوحيد أوروبا لكنها لم تتعدَّ الطابع الشكلي والمرحلي، منها محاولة نابليون في القرن التاسع عشر، والأخرى في أربعينيات القرن العشرين على يد هتلر، وهما تجربتان لم تتمكنا من الاستمرار إلا لفترات قصيرة وانتقالية، وبعد هذه الكوارث ازدادت بشدة ضرورات تأسيس ما عرف فيما بعد باسم الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً بالرغبة في إعادة بناء أوروبا، ومن أجل القضاء على احتمال وقوع حرب شاملة أخرى.
بدأت أول لبنة للاتحاد الأوروبي بتشكيل جمعية الفحم والفولاذ الأوروبية على يد كل من ألمانيا (الغربية آنذاك) وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورج، الاتحاد الأوروبي هو اتحاد مؤسسي يعتمد الآن على ثلاث مؤسسات هي مجلس الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي.
نعم.. ليس الاتحاد الكونفدرالي حلماً خادعاً أو أمنية خيالية لمجلس التعاون الخليجي، لكن هناك مقدمات ومطالب وشروط رئيسية حتى تصل لهذا الخيار، فالمراقب للمشهد السياسي يدرك وبوضوح إن العمل المؤسسي في مجلس التعاون الخليجي مازال في إطار ضيق ومحدود، لتكون المراهنة عليه فقط في ثقافة المبادرات، من ناحية أخرى دول مجلس التعاون وإن كانت متشابهة إلى حد كبير فيما بينها إلا أن هناك تبايناً في كثير من القضايا الرئيسية لكل دولة في علاقاتها مع الخارج.
أما على نطاق الأصعدة الأخرى فنجح المجلس في الإعلان عن الوحدة النقدية المشتركة ولكنه فشل في إقناع الأعضاء بالمكان والزمان، ونجح المجلس في استصدار قرارات في تسهيل عبور أبنائه بين الدول الأعضاء رغبة في إزالة الحدود مستقبلاً ولكن ما زلنا نحمل جوازاتنا للعبور من بعض الدول، ونجح المجلس في إنشاء مكتب التربية العربي لدول الخليج ولكن ما زالت المناهج مختلفة والخطط الدراسية لا تتشابه في أي دولة من دول المجلس، وما زال هناك تباين حتى في الاعتراف بالجامعات فدول تقر وتصادق على بعض الجامعات وأخرى لا تصادق.
الإعلام المشترك كسلطة رابعة، أين الاتحاد الإعلامي العملي والبناء والمشترك في القضاء على الطائفية؟ أين البرامج التلفزيونية والسينمائية والمسرحية والفنية التي تُحيي ثقافة التقريب؟
ليس كل ما ذكرت سيئات بل هناك نجاحات ولكنها بطيئة بعض الشيء في نطاق التعاون المشترك فمكتب البرامج المشترك نجح بامتياز في برنامجافتح يا سمسم والمكون من ثلاثة أجزاء والذي أنتج منه ما يزيد عن 130 ساعة بث من عام 79 م و82 والثالث تم إيقافه نتيجة الغزو العراقي للكويت حيث تتكلف مؤسسة البرامج المشتركة بكل مصاريف الإنتاج، واشترت حقوق الاسم بمليون وستمائة ألف دولار لأنه النسخة العربية لبرنامج شارع السمسم الأجنبي، والفترة القادمة يتم الاستعداد لعرض النسخة الرابعة، نعم .. تعاون ناجح وتاريخي ويتم أيضاً المراهنة عليه حديثاً.
إنني أقول أخيراً: يجب تفعيل دور هذه المنظمة الخليجية، ليكون العمل المؤسسي هو ركيزتها الأساسية، ولتبدأ من خلال أجهزتها خطوات التعاون والتكامل على كافة الأصعدة بين دول الخليج، وصولاً في المستقبل إلى تحقيق اتحاد كونفدرالي ناضج ومختمر.