هم ينطلقون من مفاهيم اجتماعية معينة لكن هل سيجتمع هؤلاء نحو ذات الغاية لو تم إقناعهم أن الانفتاح الذي يقوده الملك إنما هو لمصلحة البلد، وليس من باب الترف كما قد يفهمه البعض؟
لا يمكن أن توصف الخطوات التنموية الكبرى التي تبناها ويستمر في دعمها خادم الحرمين الشريفين حفظه الله إلا بالخطوات التاريخية غير المسبوقة في تاريخ هذا الوطن الكبير. إنها أشبه ما تكون بالثورة الجميلة الوردية على كل ما هو معطل ومعيق لنمو الدخل وتحسن أحوال الفرد السعودي في هذا الزمن الذي بدأ يقترب فيه عدد السكان من الثلاثين مليون نسمة. واضح جداً أن مفاصل الخطط التنموية التي نشاهدها أمامنا في السنوات الأخيرة تتمحور حول هذا الإنسان السعودي وكيفية إعادة ميكنته ليتحول إلى فرد منتج وفاعل في الآلة الاقتصادية التي تدور رحاها. هذا ليس ابتكاراً سعودياً إذ إن الكل يسعى إلى تفعيل هذه الميزة الفردية في كل مكان في العالم. على أن العالم العربي تحديداً يتميز بقصص أخرى معظمها مخجل في حقيقة الأمر. ولم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما مخطئاً عندما أشار في كلمته قبل أيام إلى ضعف البنى الاقتصادية في المنطقة العربية بعد أن استثنى منها النفط ومشتقاته بالطبع. كانت المقارنة الأشد إيلاماً في إيقاعها هي تلك المقارنة التي وضعت كل هذه الاقتصادات على مساواة مع اقتصاد دولة صغيرة في أوروبا هي سويسرا كما جاء في الخطبة المشار إليها. ليتها كانت ألمانيا أو فرنسا مثلاً، لكنها سويسرا الصغيرة. هذا يدفعنا للتساؤل ما الذي يفعله السويسريون ولا نستطيع أن نفعله نحن؟ بل ما الذي يقدمه العرب من ابتكارات لا أقول تنافس سويسرا لكن على الأقل تتساوى معها في نصف الجودة؟ لا شيء يذكر. هذا يقودنا بوضوح إلى ندرة عطاء الفرد في المنطقة العربية. الرابط الوحيد بينه وبين الفرد السويسري هو الإنسانية فقط. لكن أخانا وابننا العربي العاطل غالباً، لا يملك الكثير من الطموحات الفردية. ربما لأننا أصلاً لم نؤهله لفعل ذلك. ربما لأننا لم نشجعه ولم نوجد له القوانين القضائية المستقلة عن السلطات التي قد يلجأ لها أي مخترع أو مبتكر ليتقاضى من مسؤول حكومي وقف في طريقه أو طلب منه رشوة مقابل الترخيص. هذه هي حالنا مع الأسف. وعن الفساد أقول لو أن الأمور تقاس عالمياً بالفساد وألوانه وأشكاله لتبوأت المنطقة العربية المراكز الأولى بلا منازع وسويسرا والسويد ذيل القائمة.
أعود إلى ما يخطط له الوالد القائد عبدالله بن عبدالعزيز وأكرر هنا أن من أهم هذه الجهود والخطط هي تلك المعنية مباشرة أو غير مباشرة ببناء الإنسان من خلال طريق واحد فقط لا غير وهو هي تهيئة فرص العمل المتنوعة أمامه. لا أقصد هنا فرص العمل الحكومية فهذه على محدوديتها أصبحت لا تسمن ولا تغني من جوع قياساً على كم الإبداع وتطوير القدرات المتوفرة في الشركات. أنا في الواقع أتحدث عن استثمارات أخرى متوقع بل وواجب جذبها إلى الاقتصاد المحلي.
إن وضعنا في المملكة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستغني عن مثل هذه الاستثمارات حتى لو ارتفع سعر البترول إلى 300 دولار للبرميل ذلك أنه لا توجد أي حكومة تنفق على مواطنيها هكذا بالمجان. ومن هنا فإن التحديات الكبرى في مسيرة خطط هذا الملك العظيم هي تفعيل كل الاستراتيجيات التي من شأن تطبيقها أن يشجع مثل هذه الاستثمارات ليس ذلك فقط بل وتسعى بكل قوة لتذليل كل العقبات التي قد تقف حائلاً دون ذلك. الحقيقة الأخرى والأهم أن الحديث عن الاستثمارات المتنوعة التي أشير إليها والتي يفتقد لها اقتصاد المملكة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بنمط المعيشة وسلوكيات العائلة السعودية. من المعلوم أنه يوجد الكثير من فرص الاستثمار المتخصصة في السياحة على سبيل المثال وليس الحصر غير أن السياحة وحتى تنجح وترتفع في مستوياتها إلى ما نصبو إليه تحتاج إلى القليل من التسامح الاجتماعي وفك بعض المحاذير الاجتماعية التي تعوقها اليوم عن الانطلاق وفي مقدمة ذلك الاختلاط. فالمطور أو المستثمر السياحي على سبيل المثال وحتى ينجح في مشروعه لا بد أن يشرع أبوابه للزائرين. مفهوم يوم للذكور ويوم للإناث لم يعد مجدياً بعد اليوم. هذا التصرف يقلل من زيارة العائلات وبالتالي الدخل. وهكذا نجد أن نزوح المستثمر للخارج أو الاحتفاظ بأمواله دون تدويرها عملياً بما ينفع الناس قد يلغي مليون فرصة عمل جديدة نحن بأشد الحاجة إليها.
بالأمس القريب تجمع عدد من الدعاة في الديوان الملكي يحملون رسالة تطالب وتؤكد وتؤصل استمرار انغلاق المجتمع. وقبل ذلك كان لهم حضور مماثل في عدد من الوزارات. هم ينطلقون من مفاهيم اجتماعية معينة لكن هل سيجتمع هؤلاء نحو ذات الغاية لو تم إقناعهم أن الانفتاح الذي يقوده الملك إنما هو لمصلحة البلد وليس من باب الترف كما قد يفهمه البعض؟ هل سيستمر هؤلاء الإخوة في مطالباتهم فيما حتى لو تم توضيح صور المستقبل الغالب عليها الرعب والعتمة عندما يرتفع عدد العاطلين إلى عشرة ملايين عاطل وعاطلة خلال سنوات قادمة؟ لا أظن أنهم سيستمرون كون هذا الاستمرار قد يؤدي إلى فقدان كل المكتسبات. ولهذا فما قيمة الإبقاء على بعض العادات المختلف حولها أصلاً من الناحية الشرعية إذا كانت المحافظة عليها ستدمر الأخضر واليابس؟ فهل نبدأ بالشروع بإقامة ورشات العمل والندوات المفتوحة التي توضح أهمية هذا التنوع في الاستثمارات وهذا التحرك المنضبط نحو الانفتاح في المجتمع حتى نقضي على مثل هذا الجدل؟ أتمنى ذلك.
قد يكون الزمن وعوامل أخرى يأتي في طليعتها حب وتفاني هذا الشعب في حب شخص خادم الحرمين الكريم قد خدمتنا في ظروف وأحداث مختلفة. وأقول بملء فمي ومن خلال الدراسات والحقائق التي أتت من تجارب عالمية إنه لا سبيل أمامنا وأمام هذا الوطن إلا المضي قدماً وبلا توقف نحو بناء الإنسان وتهيئة كل الفرص الوظيفية أمامه. صناعة السياحة والترفيه وخوض غمار التجزئة والضيافة وتحويلها إلى صناعة سعودية ودعم انفتاح المجتمع نحو مناشط أخرى كثيرة كل هذه ستؤدي إلى ميلاد استثمارات كبيرة وهائلة وستخلق للأجيال المعاصرة وأجيال الغد الملايين من فرص العمل الواعدة التي يتطلعون إليها. أما خلاف ذلك فلن يؤدي إلا لاتساع الفقر والحيرة وضياع الوقت. نحن ندرك أن مثل هذه الظواهر تعتبر سبباً رئيسياً في ارتفاع مستويات الجريمة وانفلات الأمن. حفظ الله بلادنا من كل مكروه ووفق المخلصين إلى تحقيق خططهم الطموحة ببناء الدولة السعودية العصرية الثابتة والقوية والمعتمدة على سواعد أبنائها وبناتها. الدولة القادرة على التصدي والصمود أمام كل المتغيرات التي تعصف بالعالم.