قبل أكثر من عام كنّا نرتّب، في لجنة الفعاليات بأدبي الشرقية بالتعاون مع الملحقيّة الثقافيّة للسفارة الألمانيّة بالرياض.

قبل أكثر من عام كنّا نرتّب، في لجنة الفعاليات بأدبي الشرقية بالتعاون مع الملحقيّة الثقافيّة للسفارة الألمانيّة بالرياض، لأمسية ثقافيّة للشاعر والمترجم السوري اللبناني فؤاد رفقة وللروائي العراقي نجم والي.. غير أن الأمسية مضت بجناحٍ وحيد، حيث تعذّرتْ مشاركة رفقة لأسباب عائليّة بوفاة أحد أفرادها. كنتُ شخصيّا أمنّي النفس بلقاء هذا الشاعر الذي حفر عميقا بداخلي منذ أواخر الثمانينات حين قرأت له - لأول مرّة - كتابه يوميّات حطّاب الذي سحرني بعوالمه ومناخاته وجمله المترعة برائحة الأرض وبكوريّتها التي لا تجدها إلا عند من أصغى وأخلص الإصغاء لـ جمرٍ يحلم في عتمة كوخ، وللبراري والريف المفتوحة وثمّة من وضع روحه في قلب الكائنات والأشياء وعانقَها حدّ التصوّف؛ يصف ويتأمل ويدفق في إناء الشعر ما تخمّر من تجربته الكيانيّة، تشقّ الأفق بهدوءٍ وتواضع، لها الحكمةُ العميقة وبساطةُ رداء العشب الذي يبزغ توّا بخضرةٍ يانعة وعبيرٍ فجريّ يدهمُ الحواس.
ومُذّاك لم أنقطع عن متابعة إصداراته من شعرٍ وترجمات، وآخرها كتاب مرثيّة طائر القطا الصّادر عام 2009 الذي اعتبره تجربة خاطفة ومفاجئة.. تمتزج فيها الشخوص الحاضرة والتاريخية والبيان الفلسفي ومواقيت الطبيعة؛ غرام الشاعر العميق والممتد.
بعد اللهاث في بقاع الكائنات الغريبة، على صخرةٍ يجلس، يتأمل البحر وفي أغوار سرّه يهمس: لم يعد في الأرض ما يغري.
لم يعد في الأرض ما يغري. غادرنا فؤاد رفقة يوم السبت الماضي - 14 مايو - عائدا إلى الرّحم في أرضه الأولى: كفرون السورية التي احتضنت نبتته حتّى سنته العاشرة. رحلَ عن تجربةٍ مديدة خصبة، ربما لم تأخذ حقّها من الذيوع والانتشار والتأثير، وكذلك من الدرس الأدبي والبحث المعرفي، مثل زملائه من تيّار مجلة شعر.. والأسباب تشرحُها طبيعة كتابة رفقة والعزلة التي فرضها على نفسه؛ عزلة الذهب التي لا يعرفها الإعلام ويضيق ذرعاً بها فينصرف عنها انصرافَ المتهور عن كنزٍ يغري ويعد ويفي.
كتب الشاعر رفقة تجربة مختلفة؛ واضحة في زمنٍ يحتفي بالألغاز ويلتحف بأحجية الغموض والتفجير اللغوي.. تجربة مختلفة؛ تنتمي إلى العالم الرعوي الريفي، تلتصق بالطبيعة الأولى وزرقة الينابيع وحفيف الأشجار في زمنٍ تهجم فيه المدينة الجديدة ويحضر مأزق ارتطامها بالحداثة والتحوّل. لأجل ذلك سارت كتابة الشاعر في الظل. لم تيأس ولم تنزوِ، بقي نبعُها يترقرق حتى اللحظات الأخيرة، في قصديّة مثابرة وإخلاص لاكتشافه الأول الذي ظلّ متمسّكاً به، يعيدُه ويلوّنه وينفحه بجرعةٍ فلسفيّة هي البطانة وهي التماسك بعد أن تتفتّتْ القشور وينضج الجوهر:
تحت القشور، بطيئا يستوي الوقت،
وفجأةً شمسُ الصيفِ
والعناقيد.