تحقيق الذات بالنسبة للفرد أحياناً يعني بالضرورة تغيير الواقع بما لا يدع مجالاً للشعور بألم الضمير، وتحديد العلاقة بالآخرين ليس حسب الاحتياج، وإنما من خلال نظرة محددة يعتقد أنها تصف الأشياء بصفاتها، وترى الألوان وفق طبيعتها
لا يمكن للإنسان أن يكتب كل شيء، فعذاب الكلمة أقسى من أن يتحمّله إنسان بمفرده (عبدالرحمن منيف).
ثمة أشياء في الوجود لا يمكن تفسيرها بشكل كامل، إلا أنها تقع ضمن حالة عريضة من التفسيرات، التي تحاول الفهم، فالوجود يحاصره العدم، وهما-الوجود والعدم- على طرفي نقيض لكنهما يتجاوران كعنصرين متضادين لا يلتقيان. إن وجود وردة على طاولة يعني وجودها، بمعنى أننا لا نستطيع أن نتحكم برغبتنا في وجود أو حذف هذه الوردة، فهي موجودة كحقيقة شئنا أم أبينا، لكن يمكننا أن نغير من الشكل الذي توجد عليه هذه الوردة، وهنا نكون قد انتقلنا من مسألة (الوجود) إلى مسألة (الماهية)، فوجود شيء معيّن يعني أنه موجود في مكان ما، لكن ماهيته تعني أنه موجود على شكل معين، ومن هنا يمكننا التحكم بالماهية، بتحديد الشكل الذي توجد عليه.
أشياء كثيرة لا يمكننا أن نلغي وجودها لكننا نستطيع أن نغير شكل وجودها، فالوردة الملقاة على الطاولة يمكننا أن ننزع أوراقها لتكون بلا أوراق! وهكذا فإن هناك أشياء كثيرة تبدو لنا مضيئة لكنها تحاصرنا بالعتمة حين نحاول أن نغير من ماهيتها فتفقد قيمتها.
إن استنطاق الحروف حول وجود ذلك الشيء وماهيته ليس بالأمر السهل، فالسؤال يداهم كطوفان، ولا نعثر بالسهولة على جواب، إذ ثمة حاجة كبيرة للتأمل والتفكير والاطلاع، فربما يجود العقل ببعض التفسيرات التي يفرضها تأمل لواقع مزدحم بالخيبات، وكلما مضينا في محاولة للاقتراب من إجابة للسؤال، وجدنا أننا بتغيير شكل الماهية، كمن يحاول الرسم بألوان بيضاء على صفحة بيضاء أيضاً، فتكون النتيجة لونا واحدا لا فوارق فيه بين الأشياء، فتتساوى لدينا رؤية الأشياء: السواد كالبياض، والحديقة كالصحراء، والورد كالصبّار.
الوجود الحقيقي قد يستدعي الخروج من هذه الحالة، التي تعني واقعاً جديداً، فالإنسان يحقق وجوده بذات متفاعلة، تشعره بكل ما يحيط به، وانتفاء التفاعل يعني الدخول في السائد، لا فرق بين شخص وآخر. وهنا يكون وعي الإنسان بذاته مما يزيد من شجاعته في مواجهة هذا الواقع الرتيب، وعدم الاستكانة للممنوع والسائد الذي يصور بأنه يجعل الإنسان بالضرورة منفصلاً عن وجوده الذي يحقق به ذاته، أي ما بين الوجود الفردي والوجود المطلق أو النهائي.
وتحقيق الذات بالنسبة للفرد أحياناً يعني بالضرورة تغيير الواقع بما لا يدع مجالاً للشعور بألم الضمير، وتحديد العلاقة بالآخرين ليس حسب الاحتياج، وإنما من خلال نظرة محددة يعتقد أنها تصف الأشياء بصفاتها، وترى الألوان وفق طبيعتها، وتقدّر المساحات بأبعادها، أما بقية أجزاء الوجود فتبقى ذات قيمة محددة وثابتة تساوي عدم وجودها. وعلى الرغم من أن حقيقة الوجود الإنساني تعني بالضرورة الإحساس بالآخرين والتفاعل والتعايش معهم، فبذلك يتحقق الوجود ومدى تحققه كحقيقة أو زيف، وغالباً ما تتكون في ذهن الإنسان قناعة راسخة بأن تماهي العلاقة مع السائد تحقق وجوده، فيكتشف البعض أن لديه قدرة على خلق واقعه الخاص، فوجود أشياء حوله وغياب أشياء أخرى يمثل حقيقة شعوره، إضافة إلى اعتقاد بأن الآخر يمثل عائقاً أمام العلاقة الدينية، وهذه هي الرؤية الوجودية لدى الفيلسوف الدنماركي (كيركجارد) الذي فسخ خطوبته لأنها حسب اعتقاده تتعارض مع الارتباط بالله، غير أن بوبر عارض ذلك متسائلاً عن حقيقة ارتباط الإنسان هذا باقترابه أو ابتعاده عن الآخرين. وفي نقطة مشابهة إلى حد ما يفسر سارتر وجود الآخرين بالعائق عن الوصول إلى المطلق، مما يجعل الفرد رهن جحيم الآخرين كما يقول سارتر. وفي نقطة أخرى يربط سارتر الوجود بالجسد، لكن الفلسفة الوجودية على أي حال تفرق بين قضيتين مهمتين هما: الاهتمام بالآخر، والانشغال به. فالأولى يمكن ألا تعني الاهتمام الإيجابي دائماً، فقد تستخدم بمعنى إزاحة هذا الآخر عن الطريق، بينما تستلزم الثانية أن يكون هذا الانشغال إيجابياً.
وبما أن الموضوع هنا يتصل بالفرد والآخرين، فإن علماء الاجتماع يرون أهمية أثر الجماعة على الفرد من خلال قوة ارتباطه بها أو ضعفه، ويفسر عالم الاجتماع (دوركهايم) عمليات الانتحار وفق ثلاثة مستويات: فالجماعات التي يتمثل أفرادها قيمها بشكل كامل كما لو كانت قيمهم الخاصة بهم يؤثرون الدفاع عن مصلحة الجماعة ويعتبرونها مصلحتهم الخاصة، ولا يعتبر الفرد منهم نفسه مستقلاً عن الجماعة التي ينتمي إليها، ولكن رغم ذلك يقدمون على الانتحار كما فعل الطيارون اليابانيون أو أعضاء القاعدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يسمى بالانتحار الإيثاري. وبما أن الفردانية تؤدي إلى عدم تمثل القيم الجماعية السائدة، التي لا تؤثر على الفرد كسلطة، وبالتالي يكون ارتباط الفرد ضعيفا بالجماعة، وهنا يحدث النوع الثاني وهو ما يسمى بالانتحار الأناني، الذي ينتج عن قناعة الفرد بأن قراره ذلك لن يترتب عليه أي نتائج سلبية على الجماعة، ويفسر دوركهايم انتشار هذا النوع بأنه بسبب عدم ضغط الجماعة على الفرد، ويقارن في ذلك بين ارتفاع معدلات الانتحار بين البروتستانت مقارنة بالكاثوليك على الرغم من تحريم الانتحار في هذين المذهبين. أما النوع الثالث فيسمى الانتحار الأنومي، وهو الذي يكون نتيجة فقدان المجتمع للمعايير التي تنظم سلوك الأفراد لا يعرف فيها الخطأ من الصواب، وهذا ما يستوجب وجود ازدواجية في المعايير.. وهذا ما يجعل مسألة الرؤية الإنسانية للوجود مسألة معقدة.