منذ حكايا الطفولة أشعلت ثلاث شمعات للسلام والحب والخير
ثائرة هي حتى النخاع، لم تمح الشمس الغائبة في مهجرها الهولندي طبيعة بشرتها العراقية، سنبلية الألوان، ولم تصبغ أضواء المدن شعرها الأسود القاسي، كل ما فيها يصرخ أنا عربية من زمن الوجع العراقي، إنها الشاعرة بلقيس حميد، المهاجرة العراقية لهولندا منذ عام 1994، والتي نجحت بقلمها في صهر الجليد الهولندي لتنساب المشاعر مع كلماتها.
وبلقيس ليست شاعرة فقط، بل أديبة، وناقدة سياسية، ومناضلة عربية من أجل قضية العراق وفلسطين، وقضية كل شعب وامرأة عربية تعاني من القهر والحكم الاستبدادي، تجدها في كل منتدى عربي بهولندا أو بدول الجوار الأوروبي، تحمل أوراقها وقلمها وفكرها الرافض لكل أنواع الرق والاستعباد السياسي أو الفكري، حتى باتت ملمحا متميزا من ملامح الأدب العربي المهاجر لهولندا، فتم اختيارها من قبل مؤسسة (فيرسيرنك) مع عشرة من شعراء لاهاي، لتكتب أشعارهم على أعلى مباني المدينة، إضافة إلى أنها ترأس حاليا المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا.
حين تسمع شعرها لا تملك إلا أن تحلق معها في سحب الخيال للحظة، ثم تهبط معها إلى ألم الواقع لحظتها التالية، لتعايش تناقض هذا العصر وزخمه، بين قصيدة رحيق الورد والحب بانتظار، إلى قصيدة المناضلات في سجون الديكتاتور، وقصيدة طغت الرداءة.
وقد أخرج لأجلها الفنان العربي كاميران رؤوف فيلما وثائقيا كجزء من دراسته التي قدمها إلى أكاديمية الفنون في ألميرا بهولندا عام 1994, صور به بعضا من حياتها وهجرتها، وفلسفتها في الشعر والحياة، وعن حكايات الطفولة التي تنصح بإشعال ثلاث شمعات كل يوم, حمراء للحب, بيضاء للسلام, خضراء للخير, وتشعل الشاعرة الشمعات الثلاث، لكنها نهاية الفيلم تطفئها ساخرة من حكايا الطفولة وتقول في ألم سنين أشعل الشموع وأنتظر فلا السلام جاء, ولا الحب جاء, ولا جاء الخير.ولدت بلقيس حميد بمدينة سوق الشيوخ محافظة الناصرية، ورضعت الشعر من بيئتها، فكان والدها الشاعر عبدالحميد السنيد، هاجرت من العراق إلى لبنان فراراً من حكم صدام حسين وهيمنة البعثيين على الحياة عام 1979، وانخرطت في صفوف المقاومة الفلسطينية إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ثم انتقلت إلى سوريا لتواصل دراستها في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وفى عام 1994 اختارت هولندا لتكون محطة أخيرة لرحلة اغترابها، حيث سبقها إليها بعض أصدقائها.
تقول بلقيس لا أنسى ما عشته في العراق ولا في لبنان، لا يزال الكابوس - بل الواقع - يطاردني، أيام القصف الإسرائيلي للبنان، وأنا أحمل طفلي وأجر الآخر خلفي، وأجري تحت النيران بكل ما أوتيت كل أم عربية من قوة، هاربة من القصف لأنجو بحياة طفلي، كانت لحظات تحدٍ للموت ولقوة الاستعمار الغاشم، ما زلت أعيش المشهد متكرراً في كل ليلة، ولن ينتهي هذا الكابوس حتى تتحرر كل الأراضي العربية.
وترى بلقيس أن المرأة العربية ليست كائناً أو مخلوقاً ضعيفاً مقهوراً، وعليه الاستسلام، بل المرأة طاقة خلاقة وإبداع، وبدون استثمار طاقتها وإطلاق إبداعاتها سيكون المجتمع مشوهاً ومسخاً منقوصاً، وتدلل بذلك على نجاح المرأة العربية في كل المجالات، بما في ذلك إثبات وجودها بالمهجر الغربي.
وقد صدر للشاعرة بجانب مئات المقالات والمداخلات الأدبية والإعلامية عدة دواوين منها، اغتراب الطائر، وتمت ترجمته للهولندية، ومخاض مريم، وأجمل المخلوقات، واختارتها منظمة العفو الدولية لتكون من بين أهم وأفضل الشاعرات، فكانت ضمن خمس شاعرات عربيات و150 شاعرة عالمية، والشاعرات الأربع العربيات هن: نازك الملائكة , فدوى طوقان, سعاد الصباح، وظبية خميس.
ومن قصائدها التي اشتهرت بها قصيدة بلادي التي تقول فيها:
سألت الريح عن لقياك والطيرا
سألت الكون والدهرا
بدت صمتا ولم تحكِ
آه فلنبكِ
فدى أرضي أنا
للنخل من روحي
سحابات بماء القلب أسقيها
وأنّات حزينات
أغنّيها
كما النايات نائحة
غروب الشمس في وطني
وترثي الشاعرة بلقيس موت أمها التي لم تمهلها غربتها لوداعها فتقول:
تهزين الضفائر
يهطل المطرُ
نخيلاً صار حبكِ للملايينِ
فمرحى للذي يغرفُ من نهركِ
خيراً
ولا تزال بلقيس تعايش في هولندا أوجاع الوطن وآلام الاغتراب، وتصهر كل ذلك حبراً وزادا لقلمها لتخرج القصائد الرائعات.