لأن خطاب كثير من القوى الفقهية لم يكن على مستوى التطور الذي شهده الشارع العربي، في أفكاره وفي قيمه وفي مطالبه، بقي الفقيه عاجزا عن مواكبة ذلك، فأصبح مجرد ضيف على موائد التغيير
لا يمكن لأحد أن يجيب بشكل مقنع عن السؤال التالي: ما هو دور الفقهاء والوعاظ في الثورات الجديدة التي تشهدها المنطقة العربية، كما حدث في الثورة التونسية أو المصرية أو الليبية أو غيرها؟
لعل التجربة المصرية أبرز نموذج يمكن من خلاله قراءة أدوار مختلف القوى ذات التأثير الاجتماعي، ولأنها ذات طبيعة ثقافية متنوعة يحظى فيها الفقهاء والوعاظ بمساحة من التأثير الوجداني في شريحة ليست بالقليلة من الناس، إنما هل أخطأنا في قراءة ذلك التأثير، لأن الفقهاء والوعاظ كانوا أقل من متطلبات المرحلة؟
الواضح الآن أنهم لا يشغلون في هذه الثورات أي موقع قيادي أو تأثيري، فلم تكن أي من القوى الإسلامية هي صاحبة الدعوة للثورة أو المحرك لها، بل هي قوى التحقت بالثورات بعد أن بدأت واقتربت من تحقيق أهدافها، وربما لا يختلف دور القوى الإسلامية في مصرعن قوى المعارضة التقليدية، الذين اكتشفوا أن لدى الشارع قوته وقيمه وتأثيراته، فتحولوا إلى ضيوف على موائد الثورة وليسوا صناعا لها على الإطلاق.
ارتبك المشهد الفقهي في العالم العربي بشكل كبير جدا، وهو يشاهد هذه الثورات تندلع وتصمم على أهدافها، وتنجح في تحقيق تلك الأهداف ثم حين بدأوا في محاولة الاقتراب منها، لم يستطيعوا تحمل الوهج والروح والمعاني الجديدة التي تحملها تلك الثورات، وحضر الشيخ يوسف القرضاوي في أول جمعة ليخطب خطبة في الواقع لم تقدم جديدا سوى محاولة لتقديم الدورالتقليدي الذي لا مكان له في هذه المعادلات الجديدة على أنه قائم وحيوي مؤثر.
أخذ الفقهاء يتحدثون عن انتصار الثورات من خلال معايير وأفكار هي في الواقع لا علاقة لها بالثورات، ثم اتجهوا لقراءة الفساد والظلم الذي أوقعته الأنظمة الديكتاتورية على شعوبها من منظور فقهي، بينما كان تحرك الشارع ضد الظلم والفساد تحركا مدنيا وليس فقهيا، منطلقا من قيم المساواة والحرية والكرامة والسعي للتقدم وبناء الأوطان على فلسفات الحريات والقانون وكلها منطلقات مهما حاول الفقيه أن يصبح شريكا في الدفاع عنها، إلا أنه سرعان ما ينجرف بخطابه نحو مضامين فقهية وطائفية غالبا. وبالتالي فالفقيه – التقليدي خاصة – غير منسجم في فكره ولا معارفه مع ثقافة الثورات ومنطلقاتها على مستوى القيم والأفكار والواقع.
شعر رجال الفقه في العالم العربي بكثير من الغربة وهم يشاهدون تلك الثورات، وازدادت تلك الغربة بالنظر إلى أن مختلف القوى والحركات الإسلامية الجهادية وغير الجهادية التي ظلت لسنوات تتحدث عن الظلم ومواجهة الاستعمار لم تنجح في تقديم أي مشروع حقيقي ناهيك عن أي تحرك مؤثر على الأرض، ولم يتجاوز دورهم المنابر ومواقع الإنترنت، ليكتشفوا مع اندلاع الثورات أن للتغيير مبرراته وأهدافه وقيمه الجديدة.
ظهرت خطب بعد تنحي الرئيس مبارك ونجاح الثورة المصرية تشيد بالثورة وتصف الرئيس بالظالم الذي سجن العلماء وضيق على الدعاة والصالحين، وظهرت خطب تندد بما تسميه التوجهات العلمانية لدى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وتواصل ذلك البحث عن مبررات ومداخل يمكن من خلالها للفقيه أن يشارك في دعم الثورات وتأييدها وأنه جزء منها، وأن يتجاوز شعور الغربة الذي فرضته هذه الثورات على مختلف القوى الفقهية التي جاء التغيير بعيدا عن مطالبها ومنطلقاتها.
في جميع الأحوال لا يعني ذلك أن الشارع العربي تخلص من قيمه الدينية، على الإطلاق، ولكنه جعل منها مبررات لقراءة الحاضر بما يحتاج إليه هذا الحاضر، ولأن خطاب كثير من القوى الفقهية لم يكن على مستوى التطور الذي شهده الشارع العربي، في أفكاره وفي قيمه وفي مطالبه، بقي الفقيه التقليدي عاجزا عن مواكبة ذلك، فأصبح مجرد ضيف على موائد التغيير .
في ميدان التحرير وفي ميدان التغيير وفي مختلف الميادين في العواصم العربية التي شهدت انطلاقة الثورات، وقف الرجل بجوار المرأة، ووقف المسيحي بجوار المسلم وكلها مشاهد لا تطيقها القوى الفقهية وترى فيها خروجا على محدداتها وتقاليدها وأحكامها.
الآن يكاد كثير من الفقهاء والوعاظ يقدمون ما يشبه إفسادا للثورات، حين يخطبون بشأنها أو يعلقون عليها، والقضية هنا ليست في (التخصص) وهي الحجة التي طالما رفعها كثير من الوعاظ في مناهضة منتقديهم، ولكن القضية هي أن للفقيه والواعظ بعدا واحدا للمعرفة وهو المعرفة الدينية التي لم يستطع أن يطور خطابها ليكون حيويا بما فيه الكفاية ومستوعبا لمختلف التغيرات، وفي تناولات ما يحدث الآن في سوريا من قبل بعض الفقهاء ما يؤدي فعلا إلى إفساد كل حراك شعبي واتهامه بأنه يتبع لقوى خارجية، فحين يعلق الفقيه على ثورة أو تحرك شعبي ما فلن يستطيع قراءته سوى من واقع رؤيته التي هي ذات بعد واحد.
لم يتحرك الشارع العربي في الدول ذات الديمقراطيات المزيفة وذات قوانين الطوارئ، لم يتحرك ضد الرئيس لأنه حليق أو ملحد أو يسمح بالاختلاط أو لا يصلي، فكل هذه الجوانب ليست قضايا ولا مبررات للثورة، لتصبح تصريحات كثير من الفقهاء مجرد هدايا سخية يقدمونها لاستخبارات الدول التي تجهد لإلصاق تهمة الانتماء للخارج لكل من يتظاهرون في شوارع مدنها. حتى لو صحت تلك الآراء والمواقف الفقهية.
العقلاء فقط هم من يدركون أن تلك الآراء لا تمثل السياسات الفعلية لدول كل أولئك المعلقين على الثورات والمواقف السياسية الفعلية التي تعبر عن الدول ولا يمكن أخذها من المنابر.
الواقع السياسي يثبت دائما أنه لا يحتكم لما يجوز وما لا يجوز ولا للخير والشر، وإنما للنافع والممكن وغير الممكن.