تساهم بعض الصحف المحلية في ترويج حملات التجار لإقناع المستهلك بقبول الغلاء بحجة ارتفاع الأسعار عالمياً، حتى والأسعار العالمية في انخفاض. ويستغل التجار بذلك جهل المستهلك، وضعف الأجهزة الرقابية. فما هي مسؤولية الصحافة الاقتصادية؟

عندما يأتي الأمر للأخبار السياسية، تجد لدى قارئ الصحف شكاً غريزياً في دقتها، وتحرياً للدوافع وراءها، وتراه يتردد في قبول صحتها على علاتها، وربما لجأ إلى أكثر من مصدر للتحقق من صدقيتها.
فهل لدى ذلك القارئ هذا التشكك الصحي عندما يقرأ الأخبار الاقتصادية؟ أم أنه يتوقع أن الأخبار الاقتصادية في مجملها دقيقة، وأن أخطاءها ـ إن وجدت ـ قد وقعت بحسن نية، وليس بهدف التأثير عليه وتزويده بمعلومات غير دقيقة لغرض ما؟
فقد فوجئتُ يوم الأربعاء الماضي (4 مايو 2011م) بقراءة خبر غريب في إحدى الصحف المحلية، موجزه أن أسعار القطن العالمية قد رفعت أسعار الملابس في السوق المحلية بأكثر من 50%، واستشهد الخبر/التقرير بعدد من المعنيين، كانوا كلهم دون استثناء من تجار الملابس أو الباعة، وتنافسوا جميعاً، كما هو متوقع، في تبرير الارتفاع في أسعار الملابس في السوق المحلية، وتوقعوا أن يستمر ذلك في المستقبل المنظور نظراً إلى الارتفاع المستمر في أسعار القطن. وكأنهم يُحضّرون المستهلك نفسياً لقبول مزيد من الارتفاع في أسعار الملابس. ولم تورد الصحيفة رأياً مخالفاً من أية جهة محايدة.
وقد استغربتُ وقتها من ذلك الخبر، فأنت لو طالعت الصحف الأجنبية ووكالات الأنباء في اليوم نفسه، بل في أي يوم خلال الشهرين الماضيين، لوجدت صورة مختلفة تماماً، إذ إن أسعار القطن في العالم أجمع بدأت خلال شهر فبراير بالانخفاض الشديد، واستمر الانخفاض، وليس الارتفاع، إلى يومنا هذا، ويتوقع الخبراء أن تستمر في الانخفاض طيلة العام! أي نقيض ما قالته صحيفتنا المحلية.
صحيح أن أسعار القطن قد ارتفعت خلال عام 2010 واستمر ذلك الارتفاع في بداية عام 2011، وبلغت مستوى تاريخياً في شهر فبراير، حين بلغ سعر كيلوالقطن حوالي (4.4) دولارات. ولكن منذ ذلك الوقت بدأت الأسعار في انخفاض حاد، وبلغت يوم الجمعة الماضي (6 مايو) حوالي (3.2) دولارات للكيلو، أي بانخفاض 27% عن مستويات شهر فبراير. ولو تابعت صفقات المستقبل futures trading في بورصات القطن، لوجدت أن توقعات الأسعار في الاتجاه نفسه، إذ يُتوقع أن يصل سعر الكيلو بنهاية العام إلى حوالي دولارين وربع، أي بانخفاض يقارب 50% عن المستويات التاريخية التي بلغها سعر القطن في شهر فبراير!
ومن المؤكد أن تجار الملابس قد رفعوا أسعارهم للملابس الجاهزة والأقمشة خلال فترة ارتفاع أسعار القطن عالمياً، أي خلال عام 2010 وبداية عام 2011، وذلك من حقهم بطبيعة الحال، إذ إن ارتفاع أسعار المواد الخام يساهم في تكلفة تلك الملابس ولا بأس بزيادة أسعارها بنسبة تتوافق مع الارتفاع في تكلفة المواد الخام.
وبنفس المنطق، من المفروض إذن أن تنخفض أسعار الملابس، لا أن ترتفع، لدى انخفاض تكلفة المواد الخام، خاصة هذا الانخفاض الحاد الذي أشرت إليه، مثلما ارتفعت تلك الأسعار عندما ارتفعت تكلفة المواد الخام.
ولكن أن يسعى التجار إلى رفع أسعار سلعهم بعد انخفاض حاد في تكلفة المواد الخام التي تدخل في صناعتها، فإن ذلك غير مبرر.
ولهذا نجد هذه الحملة الإعلامية التي أشرت إليها والتي يبدو أن بعض التجار يسعون من خلالها إلى إقناع المستهلك بأن أسعار المواد الخام ما زالت في ارتفاع، ولذلك فعليه أن يقبل بزيادات إضافية في أسعار الملابس. ويستغل التجار بذلك قلة المعلومات المتوفرة لدى المستهلك العادي، وضعف الأجهزة الرقابية وجمعيات حماية المستهلك.
ومن المفهوم أن يسعى هؤلاء التجار والباعة إلى تحقيق مكاسب على حساب المستهلك، وأن يستخدموا وسيلة لذلك ترويج معلومات غير دقيقة، بل عكسية تماماً،عن الأسواق العالمية، ولكن المؤسف أن يجدوا عوناً لهم في بعض وسائل الإعلام، التي من المفروض أن تكون محايدة. وقد نُشر الخبر الذي أشرتُ إليه على الصفحة الأولى من الملحق الاقتصادي لإحدى كبريات الصحف المحلية، وأعطي مكاناً بارزاً في أعلى الصفحة. وبدلاً من أن تقوم الصحيفة بالتأكد من صحة المعلومات التي قدمها التجار، اكتفت بإيراد شهادات متواترة لعدد من التجار والباعة، ولم تورد آراء لخبراء محايدين، أو تسأل المستهلكين أو الأجهزة الرقابية، بل لا يبدو أنها رجعت إلى الصحف العالمية ووكالات الأنباء، أو أي مصدر لأخبار تجارة القطن، وكلها متوفرة، مع أن الأسعار اليومية والتاريخية لتجارة القطن متوفرة بسهولة.
وأعلم أن أغلب الصحفيين الاقتصاديين لا تخفى عليهم هذه الحقائق، كما لاتخفى عليهم مسؤوليتهم كصحفيين بتقديم معلومات متوازنة، وعدم الانسياق وراء تأكيدات أو تطمينات من طرف واحد مهما كانت مصداقيته عالية. فما هي المشكلة إذن؟ ولماذا نرى أن صحافتنا لا تقدم وجهات نظر متوازنة في كثير من الأحيان؟ قد يكون الأمر خطاً غير مقصود، ولكن يجب أن نفكر في الاحتمالات الأخرى، فربما كان السبب يعود في بعض الحالات إلى رغبة بعض الصحف، والملاحق الاقتصادية على وجه الخصوص، في إرضاء المعلنين، فلا تدقق كثيراً في ادعاءاتهم، ولا تحرص على نشر ما يتعارض معها أو ينقضها.