لماذا لم يستبدل هذا المعلم نشاط الكفن والقبر الوهمي بتلسكوب فضائي يأخذ عيون هذا الطالب إلى عظمة الخالق في الأبراج والفلك وإلى أسرار هذا الخلق العجيب المتناهي دقة وخيالاً لا يستوعبهما العقل البشري؟
من حديثنا ـ المغلق ـ الصريح الطويل، مع سمو وزير التربية والتعليم حول شؤون وشجون المهنة، يأتي سموه على القصة الطازجة من شكوى أحد أولياء الأمور في منطقة عسير أن ابنه الذي لم يتعد العاشرة لوحظ وهو يعاني اضطراباً نفسياً ونوبات خوف وبكاء كلما اقترب صباح المدرسة. وفي البدء اعتقدت الأسرة أن المسألة مجرد ـ فوبيا التعليم ـ أو قصة رهاب من زلل طارئ في المدرسة لا بد أن يزول وبالخصوص أن لهم تجربة طبيعية وجميلة مع ذات المدرسة لثلاثة أعوام، فما الذي حلَّ فجأة في السنة الرابعة؟ وبعيد أسابيع من هذه المعاناة، أفصح الطفل الصغير عن قصة الكفن والقبر الوهمي الذي أخذوه إليه في مقطع نشاط مدرسي، وهنا صعد الأب بقصة طفله المؤلمة إلى مكتب مدير عام التعليم بالمنطقة وأيضاً لسمو الوزير وأنا هنا أروي علاجهما الصارم والإيجابي لذيول هذا العبث الذي سيبقى جرحاً في قلب طفل أعدمناه بأيدينا في فوضى نشاط مدرسي. المعلم نفسه، وبسؤال المسؤولين إليه، لم ينزل قبراً وهمياً من قبل ولم يلبس كفناً للعبرة وحتى لم يخض التجربة الأليمة مع ولدين له شخصياً يدرسان في ذات المدرسة. نحن لا نعلم ببرهان المدون من التاريخ أن أحداً من الصحابة عليهم رضوان الله ولا من أئمة المذاهب الأربعة ولا من كبار الراسخين في العلم ولا من هيئة علمائنا الأجلاء الكبار قد خاض هذا ـ التجريب ـ الأقرب للتعذيب مع نفسه أو مع ولده. يقول سمو الوزير إنه استدعى المعلم، صاحب البدعة في هذه القصة، وأفهمه أنه استدعاه للحوار والنقاش لا بقصد العقوبة والتحقيق وأن مبادئ سمو الوزير مع مثل هذه القضايا هي العلاج والتقويم لا التأديب أو البتر. وأمام سمو الوزير ومدير عام التعليم يعترف المعلم بالخطأ وبجنح الاجتهاد الخاطئ ومع هذا ستبقى الحقيقة أن المعلم ربما استوعب الدرس وعرف الخطأ ولكن هذا العلاج لن ينقذ هذا الطفل من أزمته النفسية المستمرة لأن مستودع الذكريات الذي يبقى هو ما نختزنه في طفولتنا من جروح وإهانات وعنف، والطفولة بشواردها وذكرياتها أشد رسوخاً من شوارد بقية العمر. وللأسف الشديد لا يعي بضع مئات المعلمين هذه الحقيقة.
وزبدة القصة كما رواها لي شخصياً سمو الوزير، أن سموه قد أذكى لهذا المعلم خوض البديل ما دام أن الهدف هو العبرة والتأمل والتدبر: لماذا لم يستبدل هذا المعلم نشاط الكفن والقبر الوهمي بتلسكوب فضائي يأخذ عيون هذا الطالب إلى عظمة الخالق في الأبراج والفلك وإلى أسرار هذا الخلق العجيب المتناهي دقة وخيالاً لا يستوعبهما العقل البشري؟ وللأسف الشديد، مرة أخرى فإن هذا الانحطاط والتخلف الذي تعيشه خريطة هذا العالم المسلم بالمقاربة مع بقية المجتمعات على وجه البسيطة يعودان إلى مثل هذه الرؤية، في رؤية الأهداف التي نريد ترسيخها من النشأة والحياة وقصة التربية. نحن نؤمن اعتقاداً أن الله خلق الإنسان لعبادته سبحانه وهذا مبدأ لا جدال فيه. ولكنه خلقه أيضاً ـ خليفة ـ في الأرض ليعمرها، والعلم والبناء عبادة وفي العبادة ما يدعو للتفكر والتأمل والتدبر. حياة المسلم ليست مجرد اختزال مخل لكل ما بين صرخة الولادة ولبوس الكفن. وأنا لن أحمل قصة شاردة ما لا تحتمل لتكون مسبب هذا الانحطاط والتخلف. القصة الأهم أن صراع الأمم من حولنا حول الإنتاج والابتكار والعلم والقوة والتفوق هي قصة التعليم وما يحدث فيه. وبالطبع لا توجد مدرسة واحدة في عرض هذه الخريطة تحوي تلسكوباً فضائياً يأخذ هذه الأجيال ولمجرد ـ دلالة التلسكوب ـ ولهذا يكون الكفن والقبر بديلين سهلين متاحين. هو بالضبط الاختراع المتاح من خيال وأفكار مثل هذا المعلم. وإذا ما أردتم ملامسة هذه المخرجات من المناهج ومن التعليم فتدبروا أين هي بالضبط في كل ما تلمسونه بأيديكم من مستلزمات يوم واحد من رحلة هذه الحياة. في تقنية الماء الذي نشربه ونغتسل به عذباً من بحر زلال. فرشة الأسنان ونحن أضعف حتى من الأمل باختراع وصناعة المعجون. كوب القهوة ناهيك عن آلة صناعة القهوة. القلم الذي أمسك به ما لا يقل عن نصف ساعة في اليوم. مقود السيارة وحبة البنادول. النظارة التي أضعها ـ على أنفي ـ اعترافاً بفضل هذا الغرب الذي نتفنن في لعنه بينما هو منهمك في صناعة كل ما نلمس ونشم ونشاهد ونسمع وحتى فيما نأكل ونشرب وحتى في قتل كل الآلام والأمراض والأوبئة والفيروسات وحين تصح أجسادنا، بنعمة الله، ثم بفضل هذا الغرب والشرق نستجمع هذه القوى والحواس للعنه وسبه وشتمه. جهاز الآيباد ـ وصناعة الورق التي أقضي معها ما لا يقل عن خمس ساعات في اليوم الواحد. كل شيء من حولي: أجهزة الريموت المتناثرة على طاولة مكتبي. أجهزة الاتصال. صندوق الإسعاف المنزلي بكل ما فيه. مفتاح الباب والسيارة، بل مفتاح الحياة حين غرقنا في تجارب الموت رغم أن الله عز وجل في علاه ابتدأ هذا القرآن الكريم وهذه الرسالة النبوية الخالدة بكلمة واحدة: اقرأ، ولكن كيف تعلمنا أن نقرأ.
سؤالي الختامي إليكم جميعاً: ما الشيء الذي تلمسونه أو تشاهدونه من صنع مجتمعكم خالصاً ما بين ـ شرشف ـ الاستيقاظ حتى العودة لمخدة النوم في يوم وحيد واحد؟ سؤالي النهائي: ما السبب؟!!