ما زلت أذكر جيداً تلك العبارة الساخرة المستفزة التي قذف بها ذلك الأديب العربي المشهورعلى مسامعنا في جلسة ثقافية حميمية جمعت بعض المثقفين العرب ـ ومن ضمنهم بعض مثقفينا السعوديين ـ ذات شتاء دافئ في أحد الملتقيات العربية، وما أكثرها والتي أقيمت في دولة مركزية عربية.
صدى تلك العبارة الخبيثة ما زال يرن في ذاكرتي، رغم مرور أكثر من عشر سنوات. أنتم، سكان الصحراء القاحلة، لم تستوطن في دياركم بعد ثقافة السخرية وروح الفكاهة، كما هو الحال في مجتمعاتنا ذات الإرث الحضاري والثقافي والتاريخي العريق. قالها كما يبدو ساخراً، ولكنها على كل حال نظرة استخفافية يمتهنها الكثير من المثقفين العرب القادمين من دول المركز، أو ما يُعبر عنه أحياناً بالدول القطبية تجاهنا نحن الذين ننحدر من بعض الدول الحديثة، أو ما يُطلق عليها عادة بدول الهامش. إنه الفرزالاستعلائي البغيض الذي يمارسه البعض ضد كل ما أنجزته المجتمعات الخليجية خلال العقود القليلة الماضية.
بصراحة، لست بصدد الكتابة عن تلك النظرة التقليدية النمطية الظالمة التي يحلو للبعض أن يحبسنا فيها، رغم أنه موضوع مهم وحساس وتداعياته وارتداداته النفسية والثقافية والفكرية خطيرة جداً، وقد أسست تلك النظرة السلبية لحالة ملتبسة يشوبها الشك والتعالي تحكم العلاقة بين المثقفين على امتداد الوطن العربي، ولعل التشكيك بكل تفوق وتميز خليجي إفراز مقيت لتلك العلاقة المشوهة. مرة أخرى، أنا لست بصدد الكتابة عن ذلك.
هل حقاً المجتمع السعودي يفتقد لروح الفكاهة، وتغيب عن ذائقته ومزاجه السخرية كثقافة وسلوك؟. سؤال طويل ومعقد كهذا يحتاج إلى دراسة مطولة لا تتيحها مساحة محدودة كهذه، فقط سأحاول أن أكثف الضوء قليلاً على ظاهرة السخرية في المجتمع السعودي، وهل هي ثقافة أم مجرد تنفيس؟.
والسخرية كمفهوم مبسط، لون من ألوان التعبير العفوي الذي يعتمد عادة على ردة الفعل ونقد الواقع الذي تُسيطر عليه بعض العادات والتقاليد وبعض الأمراض المزمنة التي يُعاني منها المجتمع كالجهل والتخلف والنفاق، وهي أيضاً من أكثر الفنون رقياً وصعوبة لأنها تحتاج إلى سرعة بديهة وذكاء وفكر، وقد كانت عبر التاريخ أداة دقيقة وسلاحا خطيرا بيد المثقفين والفلاسفة والكتاب والفنانين، بل وحتى البسطاء من الناس، ضد الأفكار المتخلفة.
والسخرية إما أن تكون خفيفة وذات طابع فكاهي وتبتعد عن الإيذاء والازدراء والاستهزاء، وهو لون محبب وجاذب ويبعث في النفس السعادة والابتسامة، وإما أن تكون مرة ولاذعة وتُصيبنا بنوبة من الضحك الحزين، أو ما يُعبرعنه بالكوميديا السوداء، وهذا اللون من السخرية هو الأشد وطأة وتأثيراً.
والمجتمع السعودي ـ كغيره من المجتمعات البشرية ـ يُعاني من الكثير من الظواهر والثقافات السلبية التي تحتاج إلى مواجهة على مختلف الصعد، ولكن السخرية كرد فعل تلقائي وسريع يأتي في مقدمة كل تلك المحاولات والممانعات التي يتبناها المجتمع بنخبه وتنفيذييه وأفراده العاديين، والأمثلة على الأساليب الساخرة التي برع فيها السعوديون كثيرة جداً، فقط سألتقط مثالين لإثبات أننا شعب كباقي الشعوب يمتلك حساً فكاهياً وأسلوباً ساخراً. المثال الأول، هو تبلور مفهوم الأدب الساخر في مشهدنا الثقافي والإعلامي، وخصوصاً في الدراما المحلية وما تنتجه من كم هائل من المسلسلات الكوميدية الساخرة، وأهمها طاش ما طاش و سكتم بكتم و بيني وبينك، دون التعرض طبعاً لقيمة تلك الأعمال الدرامية وحرفيتها. أيضاً ما تضخه الصحف المحلية يومياً من مقالات ساخرة تنتقد الكثير من القضايا والأوضاع والمواقف بشكل ساخر وفكاهي مما جعلها تحظى بنسب قراءة عالية جداً، وهناك أسماء بارزة في هذا النوع من الكتابة أهمهم محمد السحيمي وخلف الحربي وحسن السبع.
المثال الثاني، هو تمظهر حالة السخرية والتهكم والتماهي الشديد بين الجدية والهزل التي برزت في الآونة الأخيرة على شخصية الإنسان السعودي، لاسيما فئة الشباب، ويظهر ذلك من طريقة كلامه وأسلوب حياته ونوعية ملابسه، لم تعد مظاهر الجدية والرسمية تُسيطر على تعاطي شبابنا مع الأشياء، ولكن حلت مكانها العفوية والبساطة والسخرية. الإعلام الجديد بمختلف أشكاله ومستوياته، وانتشارأكثر من 120 ألف مبتعث ومبتعثة في معظم دول العالم، وأسباب أخرى ساهمت في تكوين هذه الشخصية الساخرة لدى شبابنا.
وأخيراً، فالسخرية كثقافة وسلوك تحتاج إلى مهارة عالية ونفس شفافة، حتى لا تسقط في براثن التمييز والعنصرية والازدراء والاستهزاء، وألا تكون مجرد شتائم وسباب وتنتقص من الآخرين وتسخر من أشكالهم وعيوبهم الخلقية وأصلهم وانتماءاتهم القبلية والطائفية.