عاش بن لادن في الوهم، وعاش الوهم عليه، وجعل غيره يعيش في الوهم واعتاشوا عليه، ولذلك فلا غرابة أن الواهمين الذين جعلهم يعيشون في بحبوحة من الوهم، ما زالوا مشككين في موته. إنه الوهم الذي عشقه بن لادن وأغرم به وعاش من أجله

الإمبراطورية، مصطلح سياسي لاتيني، يعني الدولة العظيمة، وهي التي تمتد مساحتها على جغرافيا شاسعة، متنوعة التضاريس، وغنية العطاء بالزراعة والمعادن، وتطل على سواحل متباعدة، وتحتوي على مدن كبيرة ومزدهرة، ويقطنها شعوب متنوعة ومنتجه، وتحكم بواسطة إمبراطور. وهو كذلك مصطلح سياسي لاتيني يعني العظيم. والإمبراطورية هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه أي مشروع سياسي أو يطمح إليه. وبما أن صفة العظمة، هي صفة من صفات الإمبراطورية، إذاً فالعزة سمة من سماتها التي لا تنفك عنها، أو تختفي من سمائها. والعزة هنا هي قرينة العظمة، وهي القوة والشدة والغلبة والحمية والأنفة. وعليه فالعزة سمة من سمات الإمبراطورية، لا يمكن أن تتنازل أو تتخلى عنها، فهي رمز شموخ وصمود عظمتها وقوتها وغلبتها وأنفتها. إذاً فالعزة بالنسبة للإمبراطورية هي ضمان قوتها ومنعتها، ولذلك فهي لا تقاس عندها بالماديات، حيث هي رأس مال مادياتها الرمزي؛ والتخلي عنها هو إنذار لبداية التخلي عن مكاسبها المادية، والتي هي سبب عظمتها.
يعتبر المؤرخون المعاصرون إرغام قوات الإمبراطوريتين البريطانية العظمى والفرنسية على الجلاء من مصر، في حرب السويس عام 1965م، العدوان الثلاثي، دون أن تحقق مهامها، إعلانا لنزع صفة الإمبراطوريات عنهما، وتحولهما لقوى من الدرجة الثانية، بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وإمبراطورية الاتحاد السوفيتي، خسرت صفة الإمبراطورية عندما أرغمت لسحب قواتها من أفغانستان عام 1989م، وتحولت بعدها رسمياً لقوة من الدرجة الثانية كذلك. وبرغم انسحاب القوات الأميركية من فيتنام، دون أن تحقق أهدافها، عام 1975م، إلا أنها لم تتحول لقوة من الدرجة الثانية، وذلك لاعتبار أن انسحابها منها ناتج عن ضغط داخلي، وليس عن ضغط خارجي مفروض عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لانتقامها من عدوتها اللدودة روسيا، في أفغانستان، والعمل على طردها من دول شرق أوروبا، ومن ثم تفكيكها. إذاً فالإمبراطورية التي لا تملك القدرة على الانتقام لعزتها، لا تستحق أن يطلق عليها، مسمى إمبراطورية، عظيمة.
وهكذا أصبحت الولايات المتحدة الإمبراطورية الوحيدة في العالم، ووارثة كل ما قبلها من إمبراطوريات. عندما سلم الرئيس الأميركي هاري ترومان، الرئاسة لخلفه الرئيس دوايت إزنهاور، عام 1953م، قال له، إنه يسلمه الآن مقاليد أعظم قوة في العالم، لم يحلم بها أي إمبراطور في تاريخ البشرية كلها. ويصدق هذا الكلام أكثر عندما تولى الرئيس باراك حسين أوباما رئاسة الولايات المتحدة، بعد سلفه جورج دبليو بوش الابن، عام 2009م. ففي نفس العام الذي تولى أوباما الرئاسة فيه، كان قد تم رصد ميزانية قدرها، 607 مليارات دولار للإنفاق العسكري فقط، بالرغم من كون أميركا تمر بأزمة مالية، وتعتبر هذه الميزانية أضخم مما صرفته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، أو حتى صرفته في حربها الباردة مع روسيا.
تمتاز الإمبراطورية عن غيرها، بالقوة العسكرية المرعبة والمدمرة، والتي هي نتاج قوة اقتصادية إنتاجية هائلة، والتي هي كذلك نتاج قوة إدارية فاعلة للموارد المادية والبشرية، والتي تنبع من إرادة مصممة وسباقة، مدعومة بالجامعات ومراكز البحوث والدراسات المتعمقة والمتجددة والسباقة دوماً للتطورات والمستجدات. إذاً فالقوة العسكرية، تأتي كقمة علياء تعبر عن باقي القمم الأخرى الشامخة من اقتصادية وإدارية وعلمية، وتحفظها. وأول علامة على تصدع قمم الإمبراطورية الشامخة هي تصدع قوتها العسكرية. فالنجاحات تلو النجاحات في كل المجالات، تخلق العزة بالذات والفخر بها، والتي تعبر عنها رماح عسكرية طويلة وسريعة الانطلاق للفتك بكل من تسول له نفسه بمسها وتحميها.
إذاً فعزة الإمبراطورية معبرة عن واقع على الأرض مهول وملموس ومحسوس؛ لا وهم وادعاءات، لا تؤيدها معطيات على أرض الواقع. فعندما صفع جندي روماني امرأة عربية في مدينة عمورية صرخت وامعتصماه، ووصلت الصرخة للمعتصم، فقرر إرسال جيش أوله في بغداد وآخره في عمورية، وكتب لقيصر الروم، الذي توسل للمعتصم أن يتم حل المشكلة بأي طريقة يشاء أو يقترح، غير الحرب، من أمير المؤمنين المعتصم، إلا كلب الروم ... وبأن الرد سيكون ما يراه لا ما سيسمعه. وتم إرسال جيش وإحراق عمورية، وخلد شاعر القصر أبو تمام الموقعة بقصيدته الشهيرة التي مطلعها: السيف أصدق إنباء من الكتب.... في حده الحد بين الجد واللعب. فأبو تمام هنا عبر عن منطق القوة الذي يفرض نفسه على أي منطق، غير مدعوم بمعطيات على أرض الواقع؛ وهذا هو منطق الإمبراطوريات باختصار، شئنا أم أبينا.
ونفس هذا المنطق بالتحديد هو ما حدث يوم الأحد الفائت، عندما اقتحمت قوات عسكرية خاصة أميركية منزلا في مدينة ابوت أباد الواقعة على بعد ستين كيلو مترا شمال العاصمة الباكستانية إسلام أباد، وقتلت زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، منهية نحو عشر سنوات من الملاحقة لمدبر هجمات سبتمبر على الولايات المتحدة، والمتطاول على عزتها. وبعد انتهاء العملية الدقيقة بنجاح وأخذ الجثة المطلوبة ومغادرة المكان، قام الإمبراطور باراك أوباما بإبلاغ رئيس وزراء باكستان بالعملية الناجحة التي تمت فوق أرضه، وبين عتاة عسكرييه.
وهكذا أنهت قوات الإمبراطورية الأميركية، فصلا من فصول الصراع بين إمبراطورية الواقع وإمبراطورية الوهم. فقد كان بن لادن، هو وأعضاء تنظيم القاعدة، يعيشون في وهم، خارج منطق التاريخ وبعيداً عن معطيات الواقع، وهو عبث ما بعد حداثي. فكانوا يتحركون ويفعلون، حسب منطق الإمبراطوريات (الإمبراطورية العربية الإسلامية)؛ ولكن من داخل الكهوف والخرائب. فقد سادت الإمبراطورية العربية الإسلامية، عندما كانت تدعهما معطيات نجاحات مبهرة على أرض واقعها، ثم بادت عندما تلاشت معطياتها المدنية والحضارية من الواقع. بن لادن وجماعته أرادوا إحياء الإمبراطورية العربية الإسلامية، وهذا حق مشروع لهم؛ ولكنهم اعتمدوا على إحياء عزتها وتفعيلها والضرب بها؛ دون وعي منهم، بأن العزة هي قمة تمثل قمم شامخة تفرض نفسها على أرض الواقع.
الوعي والحكمة ينبعان من حسن إدراك لتعقيدات الأمور وتداخلاتها، وفهم لما يجري على أرض الواقع، أما التشدد والتطرف فينتجان عن بساطة التفكير وسذاجة فهم الواقع وترتيب أولوياته، التي يتبع بعضها بعضا لا محالة. عندما كان بن لادن يركب الخيل ويجري به هو ورفاقه، لا أشك أنه كان يتوهم أنه يخوض معارك فتح الأندلس جنباًً إلا جنب مع طارق بن زياد وموسى بن نصير، إن لم يكن يتوهم أنه يقودهم. وقد سقط مرة من على ظهر خيله وانكسر ظهره، وكان هذا مؤشر إنذار له، ولكنه لم يفهمه.
لقد عاش بن لادن في الوهم، وعاش الوهم عليه، وجعل غيره يعيش في الوهم واعتاشوا عليه، ولذلك فلا غرابة أن الواهمين الذين جعلهم يعيشون في بحبوحة من الوهم، ما زالوا مشككين في موته. إنه الوهم الذي عشقه بن لادن وأغرم به وعاش من أجله، ومات كذلك من أجله، ولذلك فلا غرابة ألا يجد عدة أمتار من الأرض على أرض الواقع ليدفن فيها جسده، برغم المليارات التي تمتلكها عائلته الكريمة؛ ولذلك دفن جثمانه في اليم، لأن الأرض ترفض من يرفض أن يعيش خارج معطياتها ويسطح واقعها.