الأمر الملكي الكريم جاء ترسيخا وتثبيتا وتأكيدا لمجموعة من القيم التي تحفظ القيم الوطنية العليا التي تحث على المساواة وحفظ حقوق الناس وكرامتهم سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين، وكلنا ثقة أن تتضمن اللوائح التنفيذية ما يمثل إجابة لبعض الأسئلة
صديقي، الشيخ، الواعظ، والذي غالبا ما يحدث تواصل إلكتروني وهاتفي بيني وبينه، أرسل لي مساء الجمعة وبعد صدور القرار الملكي الخاص بتعديلات في نظام المطبوعات والنشر، بضعة أسطر يظهر فيها تبرمه وانزعاجه وأن كثيرا من الوزراء والوزارات الذين يرى – حسب فهمه وتوجهه - أن لديهم مشاريع تغريبية قد حموا أنفسهم من النقد بعد صدور هذا القرار. وأن أهل الخير والصلاح – حسب تعبيره – لن يستطيعوا بعد الآن نقد أولئك الوزراء وكشف مشاريعهم التغريبية الداعية لإخراج المرأة (لاحظوا أن كل التهم الفكرية تحمل صفات لا يمكن تفسيرها، وتمثل نوعا من المواجهة وتدور في أغلبها حول فكرة المنع التي تحاصر مختلف قضايا المرأة).
لم ألبث أن أنتهي من قراءة ما كتب حتى وصلتني رسائل بالجوال من زميل إعلامي يقول: ماذا لو كتبت مقالا عن الحالة الصحية لمحمد عبده؟ ألا يمكن لأحد أن يقرأه على أنه نوع من الحث على الغناء وامتداح المغنين، وأن في هذا إباحة للحرام، وقد يتمكن من إقامة دعوى ضد ما كتبت؟ وماذا لو تناول زميلنا وهو كاتب معروف في إحدى الصحف المحلية كتابة انطباعاته عن ابنته التي تدرس في الولايات المتحدة وشعوره بالغبطة وهو يرى ما تحققه من تفوق ونجاح؟ ألا يمكن لأحد ممن يحملون رؤية فقهية متشددة في هذا الجانب أن يرى في ذلك تسويقا لأفكار التغريب والحياة بين ظهراني الكفار؟
الجواب الفعلي عن هذين السؤالين، وعن غيرهما من الأسئلة التي جاءت عقب صدور الأمر الكريم، يمكن أولا قراءتها من المقدمة المهمة جدا والحيوية التي اشتمل عليها القرار ونصها:
(ولما لاحظناه على بعض وسائل الإعلام من التساهل في هذا الأمر بالإساءة أو النقد الشخصي سواء لعلمائنا الأفاضل المشمولين بأمرنا رقم (أ/71) بتاريخ 13/4/1432هـ أو غيرهم ممن حفظت الشريعة لهم كرامتهم وحرّمت أعراضهم من رجال الدولة أو أي من موظفيها أو غيرهم من المواطنين مستصحبين في هذا أن اختلاف الآراء وتنوع الاجتهادات مصدر إثراء يضاف لرصيدنا العلمي وأفقنا المعرفي على ضوء ما أرشد إليه سلفنا الصالح من اعتبار الاختلاف العلمي الرصين من سعة الشريعة ورحمتها بالأمة وأن الرجال يعرفون بالحق والحق لا يعرف بالرجال، مع إدراكنا لحقيقة النقد البناء الذي لا يستهدف الأشخاص والتنقص من أقدارهم أو الإساءة إليهم تصريحاً أو تلميحاً فالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تتجلى في وجدان كل مخلص صادق لا ينشد إلا الحق بدليله ويسمو بنفسه عن كلمة السوء وتبعاتها في الدين والدنيا فحرية الرأي المنضبطة والمسؤولة التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام محل اعتبارنا وتقديرنا).
هذا النص يفصل فصلا تاما بين الذات وبين الموضوع، بل يشيد بالخلاف حين يكون على الموضوع ويرى فيه ثراءً وصدقا ونشدانا للحق ومحل اعتبار وتقدير، أما الذات سواء أكانت ذات عالم شرعي أو ذات رجل دولة أو موظف دولة أو أي مواطن عادي فالإساءة لها أو نقدها بشكل شخصي يمثل إساءة وتجاوزا للقانون، وهو ما يشير بكل بساطة إلى أنه لا فرق في القانون بين الإساءة لسماحة المفتي أو لوزير الخدمة المدنية مثلا أو لمدير إدارة التراخيص الإنشائية بمحافظة ما، أو لرجل أمن أمام بوابة مكتب الضمان الاجتماعي بمدينة ما، كل هؤلاء لا يجوز التنقص من أقدارهم، ولا استهدافهم شخصيا، وهو ما أكدته الفقرة الثالثة من المادة التاسعة المعدلة، لتصبح: (التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة).
وهنا يمكن الإشارة إلى أهمية الديباجة التي صدّر بها هذا القرار، فأعضاء هيئة كبار العلماء الأجلاء، أو رجال الدولة من وزراء ومسؤولين أو غيرهم ممن قد يشغلون منصبا يمثل وظيفة ذات جوانب خلافية، أو غيرهم من المواطنين يمنع التعرض لذواتهم واستهدافهم شخصيا، إنما لو أصدر وزير من الوزراء قرارا بتأجيل مشروع ما تم إقراره من قبل الدولة أو تم التساهل به فلا توجد أدنى مشكلة في سؤال وزارته عن ذلك وتناوله إعلاميا، وبالمقابل لو صدر رأي فقهي من أحد أعضاء هيئة كبار العلماء – مثلا – بأن كل البنوك الحالية هي بنوك ربوية أو بأن وجود المملكة في هيئة الأمم المتحدة هو تعطيل لمفهوم الولاء والبراء، أو بأن الابتعاث مشروع تغريبي مثلا، فهذه من القضايا التي يصبح فيها من حق غيرهم من الفقهاء إبداء ما تحمله الشريعة الإسلامية من تنوع وتسامح واعتدال في هذا الجانب، وطرح هذه القضايا وعلاقتها بالتنمية والأمن الوطني في مختلف وسائل الإعلام، كل ذلك لا يمثل مخالفة بل يمثل أمرا هو محل التقدير والاعتبار.
بكل أسف، فإن كثيرا من أصحاب الآراء المتشددة – ولعل هذا يدخل في نقد الرأي لا نقد الذات– يريدون أن يقولوا للعالم إن الدولة كانت على طريق ما، والآن اكتشفت عدم صوابه فعادت إلى طريق غيره، وهو رأي يمثل اعتداء على الرؤية التي تحملها الدولة، ولذلك فالأمر الملكي الكريم إنما جاء ترسيخا وتثبيتا وتأكيدا لمجموعة من القيم التي تحفظ القيم الوطنية العليا التي تحث على المساواة وحفظ حقوق الناس وكرامتهم سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين، وكلنا ثقة أن تتضمن اللوائح التنفيذية ما يمثل إجابة لبعض الأسئلة التي تدور في فلك المستجدات الإعلامية، فالإعلام لم يعد حرفة ولا وسائل خاصة بالمشتغلين بالإعلام التقليدي من صحفيين وكتاب ووسائل إعلام فيما بقية الناس مستقبلون، بل أصبح الجميع بإمكانه أن يكون منتجا للمادة ألإعلامية، فأي فرد بإمكانه أن يفتح قناة على اليوتيوب أو صفحة على الفيس بوك ويصبح مصدرا لإنتاج مادة إعلامية، ليصبح السؤال هو عن مصير هؤلاء الإعلاميين (الجدد) في سياق التنظيمات والقوانين الحافظة للحقوق.
الأمر الملكي الكريم أوقف كل محاولات الاعتداء على القضاء، وكل محاولات الاعتداء على قيمه العدلية، خاصة أن اللجنة الإعلامية لا تختلف عن لجنة القضايا المرورية ولجنة القضايا العمالية، ولجنة القضايا السياحية، وكلها تضم ممثلين عدليين وحقوقيين وقانونيين ومختصين، كذلك أوقف الأمر الملكي كل دعوات الاحتساب والتجاوزات التي تحدث لمختلف أشكال الولايات المكانية والقضائية التي تحاول إخراج المؤسسة العدلية عن وطنيتها وحياديتها.
إذن فالأمر الملكي يمثل إضافة وتأكيدا على قرارات وعوامل استقرار وطنية عليا، تسعى كلها لخدمة الاستقرار والحقوق والحريات كقيم عليا تتمثل أساسا في بناء الدولة الحديثة، تلك الدولة التي تحتاج من أجل استقرارها إلى المزيد من تلك القوانين ومن تلك الحريات ومن تلك التشريعات، وبالتأكيد لا تحتاج إلى أي شيء خلاف ذلك.