نجحت دول العالم خلال القرن الماضي في إطلاق مفهوم العولمة، التي أشعلت 27 نوعاً من الثورات العارمة والانتفاضات الخلّاقة، ساهمت في خدمة البشرية جمعاء
متى تفهم الشعوب العربية أن للثورات المدنية شروطا وأحكاما، بدونها لن تكتسب هذه الثورات صفة نجاحاتها. ومتى يقتنع الوطن العربي أن للفوضى الخلّاقة ضوابط وحدودا، وبدونها لن تتحقق أهداف شعوبه وأحلامه وصلاح أحواله.
قبل أيام معدودة لاحت بوادر النتائج الأليمة والمؤسفة لثورات العالم العربي الأخيرة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن. في ثورة الياسمين، فقدت تونس مليون وظيفة في قطاعات السياحة والزراعة والصناعة، وأضافت الميزانية التونسية الجديدة 4 مليارات دولار إلى ديونها المتراكمة، وأصبحت في حاجة ماسة لاقتراض 10 مليارات دولار أخرى، يستغرق تسديدها مدة 40 عاماً قادمة.
وفي ثورة الغضب، فقد السوق المالي المصري 11 مليار دولار من قيمته الأصلية، وفاقت خسائر السياحة 3 مليارات دولار وأقفلت 32% من الفنادق أبوابها وشردت الفوضى 342,000 عائلة وألغت 1,632,000 وظيفة في القطاع الخاص. وبينما ارتفعت الخسائر المباشرة إلى 630 مليون دولار في قطاع الصناعة و420 مليون دولار في قطاع الزراعة و160 مليون دولار في قطاع البناء والتشييد و90 مليون دولار في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، ارتفعت أيضاً أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 30% والمواد الغذائية بنسبة 33%.
أما في ثورة الهلوسة الليبية، التي اقتلعت الأخضر واليابس وأدت إلى مقتل أكثر من 10,000 نسمة وتشريد 600,000 مواطن وإغلاق 72% من مصانع الجماهيرية وقفل 90% من منابع النفط الليبي، فلقد فاقت الخسائر الاقتصادية المباشرة 36 مليار دولار، وما زال الاقتصاد الليبي يفقد 1,5 مليار كل ثلاثة أيام قادمة ولحين انتهاء الفوضى العارمة على الساحة الليبية.
وفي ثورة التنحي، فقدت الميزانية اليمنية 32% من أصولها الثابتة وتراجعت قدراتها الذاتية على الإنفاق إلى أدنى مستوياتها لتتضاعف ديونها السيادية مرتين ونصف، وتتراجع تجارتها الخارجية إلى النصف وتفقد 62% من تدفق الاستثمارات الخارجية إلى أراضيها.
في المقابل نجحت دول العالم خلال القرن الماضي في إطلاق مفهوم العولمة، التي أشعلت 27 نوعاً من الثورات العارمة والانتفاضات الخلّاقة، ساهمت في خدمة البشرية جمعاء، أهمها الثورة الصناعية والطبية وثورة النانو والطاقة الذرية والاتصالات وتقنية المعلومات، التي حققت من خلالها أرباحاً صافية خيالية.
الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة هو أكثـر التكتـلات الاقتصادية نجاحـاً في إطلاق الثورات التقنية والتجارية، حيث قفزت براءات اختراع علمائه 28 ضعفاً منذ نشأته، وارتفعت تجارته البينية من 40% في الستينات إلى 75% في نهاية عام 2007.
تكتل دول نافتا في أمريكا الشمالية نجحت أيضاً في إضرام الثورات الصناعية والزراعية والخدمية لتقفز قيمتها الحقيقية إلى 70% من حجم تجارتها مع دول العالم الأخرى.
أما دول تكتل ميركوسور المكونة من الأرجنتين، والبرازيل، وباراغواي، وأوروجواي، وشيلي، وبوليفـيا، فقد تفوقت في إزالة جميع العوائق الجمركية والكمية عن كافة السلع المتبادلة بين هذه الدول. وكذلك مجموعة الآسيان، المكونة من 10 دول في إقليم جنوب شرق آسيا، التي غدت من أفضل معاقل العولمة الاقتصادية في تبادل المنافع والمزايا، وقامـت برفـع مسـتوى تكتلها مؤخراً ليشمل الخدمات والاستثمار أيضاً لتصبح سوقاً موحدة في كافة المجالات التجارية.
يجب أن تعترف أمتنا العربية بأنها تعيش اليوم هموم تراجع قدراتها الذاتية في إيجاد الحلول الحاسمة لمشاكل شعوبها المزمنة. فالوطن العربي ما زال يعاني من فشله الذريع في إدارة الكوارث اليومية ويستسلم أمام شهوات مغامرات شعوبه الموسمية التي تجرفهم خطوة أخرى تجاه الهاوية.
ولا بد أن تعترف أمتنا العربية بأن حاضرها المظلم جاء نتيجة حتمية لضحالة خبرة (خبرائها) وقلة حيلة (علمائها)، الذين انتابتهم الحيرة بين هموم الهلوسة وأساليب البلطجة وفضائح الشبيحة، فأظلمت الدنيا أمام أعينهم وفشلوا في حلّ مشاكل الفقر والمرض والتضخم والبطالة وغلاء الأسعار.
متى تفهم الدول العربية أن العالم الأول، الذي يشكل 20% من سكان المعمورة، أصبح اليوم يواجه قضايا الكون برأي اقتصادي موحد وصوت تجاري واحد، وأنه على الرغم من افتقاره لخيرات الأرض وثروات الطاقة، فإنه أصبح يسيطر على 89% من تجارة العالم، ويتحكم في 90% من حركة رؤوس الأموال، ويستحوذ على 92% من خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، ويمتلك 97% من براءات الاختراع.
متى يقتنع الوطن العربي أن اقتصادياته المتناثرة وتجارته البينية المتهالكة هي السبب الحقيقي وراء ثورات شعوبه العارمة وانتفاضاتها الفوضوية الخلّاقة، وأن مفاهيم الهلوسة وشيوع البلطجة وانتشار الشبيحة كانت نتيجة حتمية لتشتت أهدافه وتفكك قوة تكتلاته الاقتصادية وتحالفاته التجارية، فانخفضت نسبة مساهمته في التجارة العالمية عبر العقدين الماضيين إلى 7%، وتراجعت قيمة الاستثمارات العالمية المباشرة في أسواقه إلى أقل من 4%، وتفاقمت فاتورة وارداته الزراعية بنسبة 500%، وارتفعت ديونه السيادية إلى 600%.
ومتى تنتبه الدول العربية إلى أن هجرة 50% من أطبائها و40% من علمائها و23% من مهندسيها هي محصلة تردي بيئتها الاقتصادية وبور تجارتها البينية وضراوة صراعاتها السياسية وفوضى حركاتها الداخلية، التي لم تكن يوماً ما أكثر وطأة عليها من الحروب العالمية على شعوب الوحدة الاقتصادية الأوروبية.
على عالمنا العربي البدء فوراً في تحديث سياساته الخارجية العقيمة ودمج اقتصادياته المتناثرة وتوحيد تجارته البينية المتهالكة لتوفير الرخاء والرفاه لشعوبه حتى لا يعيثوا في الأرض فساداً، وإلا فإن ما يحدث اليوم في عالمنا العربي لن يكون مستغرباً.