المهم أن نعلم أن لكل شيء في هذه الدنيا مواصفات ولكل عمل مقاييس، دونها يصبح الأمر فوضى، كما هو حال أرصفة شوارع مدينتنا، إذ لا مقاييس لها أو أنها في رأي البعض ثانوية

يتمشى المرء على طرقات وشوارع مدينة جدة، راجلاً أو راكباً، يتحدث مع نفسه، ويتعجب إن كان لأمانة محافظة جدة مواصفات قياسية تقنن مشاريعها وأعمال الصيانة التي تسندها إلى مقاولين يعبثون بسلامة المواطن وصحته، ويخدشون المنظر العام لعروس البحر. هكذا وكأنما لا رقيب يتابع أعمالهم ولا حسيب يردع إهمالهم.
فراجلاً؛ قررت مرة المشي لقضاء حوائجي، وكان في حي السليمانية، على شارع عبد القدوس الأنصاري. هناك لن تجد رصيفاً يشبه جاره أو يتصل به، ولم أجد مكاناً آمناً وطريقاً مرصوفة ومتجانسة يمشي عليها المرء لا يخشى الوقوع في حفرة أو الدهس بسيارة.
على رصيف المشاة، وعندما تجتاز إحدى المباني، ينقطع بك الرصيف، أو تجد فارقا في منسوب الأرض، قد لا تستطيع رقيه، ويستحيل على من يستخدم عربة المعاقين مواصلة السير عليه. وأحيانا لا يسعك الرصيف التالي ويضيق باثنين فتخرج إلى الشارع إن رافقك أحد، أو لتجاوز شخص مسن يمشي على مهل، أو عندما تلاقي شخصاً يمشي في الاتجاه المعاكس. وقد تجد على الرصيف أحواضاً نبتت فيها أشجار تأخذ معظم المتاح من الرصيف وتعيق المشاة. أضف إلى ذلك ما تجده من مخلفات تضطرك للمشي قفزاً أو الخروج ومواجهة المتهورين خلف مقود السيارة.
إن رصيف المشاة على جوانب الطرقات هو العمود الفقري لشبكة المواصلات بالنسبة للمشاة، ونسبة إلى كتب هندسة المواصلات، فإن وجود الرصيف المناسب على جانب الطريق يقلل من عدد حالات الدهس والإصابات المرورية التي يتعرض لها المشاة، حتى عدد الإصابات القاتلة تنخفض مع وجود الرصيف المقنن في المناطق السكنية والتجارية خاصة على الطرق المزدوجة.
وفي غياب الرصيف تصبح حقوق المشاة في استخدام الطريق منقوصة ويتعذر تحقيقها، خاصة لأولئك الذين يعانون الإعاقة. وفي الشوارع التي يغيب عنها الرصيف يضطر الإنسان المترجل مشاركة الطريق مع المركبات بأنواعها والسائقين بمختلف قدراتهم ومهاراتهم في القيادة. والطفل الذي لا يقدر حجم المخاطر، يعرض نفسه لها.
المهم أن نعلم أن لكل شيء في هذه الدنيا مواصفات ولكل عمل مقاييس، دونها يصبح الأمر فوضى، كما هو حال أرصفة شوارع مدينتنا، إذ لا مقاييس لها أو أنها في رأي البعض ثانوية. ولو أحسنا الظن باعتبارها موجودة في دفاتر الأمانة، فليس لها وجود على أرض الواقع، وأنت لا تلمس على الرصيف أي اعتبار لسلامة المشاة وحقهم في الطريق .
وأنا إن عدت إلى مذكرات دراستي في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة، أجد أن للرصيف مقاييس دقيقة تقضي بأن يكفل حركة المشاة بيسر له أبعاد وأشكال وألوان لا يمكن تجاوزها. فلا يقل عن 150 سم، ولا تزيد ميوله عن 2%، حتى لا تجهد السائر ... الخ.
وفي جدة، عندما تحصل على ترخيص البناء لأي منشأة على أي شارع وفي أي منطقة، لا تجد ضمن الاشتراطات شيء يتحدث عن الرصيف. ولا يتحقق المراقب من مواصفات الرصيف في زياراته للمنشأة. لهذا تجد أرصفة الطريق متباينة في كل شيء، لا يمكن الاستمرار في المشي عليها دون عناء، أما المعاقون فكأنما لا وجود لهم في هذه المدينة.
قد تظن أنها مسألة ثانوية - والأمر ليس كذلك، فهناك حيث تسود المقاييس، يتحمل مالك المنشأة مسؤولية تحقيق المواصفات، والاستمرار في صيانة الرصيف، وعليه يقع اللوم، خاصة بالمناطق التجارية، في أي حادث يثبت أن للتقصير في صيانة الرصيف أو لخطأ في تصميمه دور. في أوروبا وأمريكا تجد مكاتب محامين متخصصة في قضايا حوادث الرصيف، ونحن نتسامح.
عندما ظهرت السكك الحديدية والقطارات البخارية كوسيلة للنقل في أوروبا منذ قرون لم تكن هناك مواصفات ومقاييس موحدة تقنن هذه المواصلات الجديدة. وتسابقت الدول الأوروبية في تشييد السكك الحديدية وبناء المقطورات والمحركات البخارية في معزل عن جاراتها، وكانت النتيجة أنه لم يكن لقطار أن ينتقل من دولة إلى أخرى بسبب الاختلاف في مقاييس السكك الحديدية وفي الأبعاد، وتعذر على القطار حينها العبور إلى الدول المجاورة، وتوقف عند الحدود. تماماً كما هو الحال على شارع عبد القدوس الأنصاري. وفي الجيل الثاني تعلم الناس هناك، ووضعوا مقاييس موحدة يسرت الانتقال بالقطار في عموم القارة، أما نحن فسيبقى شارع عبد القدوس الأنصاري على حاله بعد قرون.
أما راكباً؛ فلن أتحدث عما تلاقيه على تحويلة تقاطع شارع فلسطين مع شارع الأمير ماجد، وأشباهها، التي تنتشر على كل تقاطعات الطرق الرئيسة في المدينة، ولن أتحدث عن سوء التخطيط والتنفيذ، والحفر التي تملؤها والمطبات. ما الذي يـمنع الأمانة من التقيد بالمواصفات لإنشاء الـطرق البديلة أثناء الصيانة؟ ... تأذى يا أمانة جدة الناس وهلكت السيارات.