موجة التحوّلات في عالمنا العربي، سواءً تلك التي أنجزتْ المرحلة الأولى من أهدافها بتغيير الواجهة بالكامل، أو تلك التي في طريقها وإنْ بدا عليها الاستعصاء ومدى الشوط الطويل المروي بالدم ليتمّ ذلك التغيير، أو من استبق

موجة التحوّلات في عالمنا العربي، سواءً تلك التي أنجزتْ المرحلة الأولى من أهدافها بتغيير الواجهة بالكامل، أو تلك التي في طريقها وإنْ بدا عليها الاستعصاء ومدى الشوط الطويل المروي بالدم ليتمّ ذلك التغيير، أو من استبق الموجة - كسورية - وقبل أن تصلَ شواطئه بادر بـ عمليات سريعة لها من التمويه أكثر من الحقيقة شأن الجراحات التجميلية وحقن البوتوكس الموضعيّة؛ تؤجّل فقط وليس لها أن تقف أمام عجلة الزمن الهادرة.
وما يلفت في هذه المسيرة أنّ أحداً لم يدّع أنه الأب وأنه المشعل.. ولا ثمّة مزاحمة في امتلاك الصفحة الأولى من فعل التحوّل العظيم. الأمر أشبه ما يكون بـ طهرانيّة متخلّصة حتّى الأخمص من الغرضيّة وأمراض الذات المولعة بالنرجسيّة والاستحواذ. كل فصيل، كل مجموعة، كل تجمّع، كل ائتلاف؛ يضع الشعب في المقدّمة كصانع للتحوّل. الكيان الجمعي هو المصدر. النداء الكبير من جسد الشعب والاستجابة العظيمة من الجسد عينه. الذوات الصغيرة والأعضاء المتفرقة والكتل الملتمّة؛ كلّها على يقين أّنها فرد، وأنّ هذا الفرد لم يصنع الفارق النوعي. الالتحام جرى في كلمة واحدة هي الشعب وارتفعت إيقونة جاذبة لأسمى القيم عندما يتخلّى أحدهم عن البطولة وعن حيازة المقعد الأول في الصف وعن ثمن معنوي يكافئ الدور الذي قام به.
في حلقة تلفزيونية من برنامج ما لا يُقال ـ بثّتْهُ محطة بي بي سي عربية ـ والتي كان عنوانها يوميّات الثورة في مصر، استوقفتني إحدى الشخصيات المشاركة في صناعة التغيير. أكثر من مرة، لم تكن الكلمات لا عنه ولا عن دوره. دائما الكلام عن المشهد في 25 يناير وما بعده ومفاصل التحولات الكبيرة. وثمّة استرجاع أو استرداد أو امتلاك (بمعنى روحي) للحظة لا تخصّه؛ هي لحظة الشهيد مصطفى الطّالع بتلقائيّة والذي لا صلة له بالسياسة وضعيف وف حاله لكنّ الندّاء يخرجه إلى الشارع؛ إلى الصف ليعالجه الرصاص شهيدا. الشاب الذي تحدّث عن مصطفى واستعاده مرارا هو وجهٌ من تلك الوجوه التي تعرف من صنعَ التحوّل ومن قاده، ومن أنضجَ الثمرة ووضعَها في اليد ولم ينتظر. الشهيد أوّل من ركب وأوّل من قاد القاطرة؛ نسيجُ الخطوة الأولى كوّنته خيوطُ دمه. عنه وعن رفقائه في الدم والشهادة، قرأت مؤخّرا نصّا جميلا لعباس بيضون عن الحريّة التي هي أطول من حياة واحدة: (لا نعرفهم لكنهم لا يحتاجون بعدُ إلى أسماء وحتّى إلى وجوه، سيكونون هكذا في دمنا وضمائرنا. سنبني لهم فيها مقابر جماعيّة وسيكون الفضاءُ كله هِبَةَ تلك القفزة الوحيدة التي حملتْنا إلى العالم.
لا أعرف إلى متى تستمر هذه الطهرانيّة المحفوفة بدم الشهداء. وهل يمكن لها أن تصمد حين يأتي يوم القسمة بصناديق الاقتراع؟