في سؤال للباحث المصري أحمد سالم عن التيار السلفي المصري؛ أجابني بأن الهجوم الضاري عليه من قبل الساسة والإعلام الرسمي هو الذي يغذّي هذا التيار ويعرّف به، ويزيده جماهيرية
شرفت بحضور (الاثنينية) الشهيرة للوجيه المعروف عبدالمقصود خوجة، حيث كان ضيفه معالي الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، المفكر المصري الشهير، وكُلّفت بإلقاء كلمة في تلك الأمسية التي زخرت –كعادة (الإثنينية)- بأعلام وقامات فكرية، وأبنت في كلمتي شيئاً يسيراً عن الجانب الفكري لدى الضيف –للرجل أشواط في ميادين السياسة والإعلام والتربية- وانتهيت بسؤال وجّهته له، يتعلق بالحالة السلفية التي تتنامى في الشارع العربي –المصري بالخصوص- وهل هذه الظاهرة مجرد بالون يضخّمها الإعلام المصري، تدخل في الاحترابات السياسية الحزبية؟ أم أنها حقيقية وإعلان صريح بفشل مشروعات النخبة الفكرية الإسلامية، من مثل الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله ومحمد عمارة ومحمد سليم العوا وطه جابر العلواني وإلى حد ما فهمي هويدي، وقد قدم هؤلاء طيلة الفترة الماضية خطاباً إسلامياً متصالحاً مع الآخر، وخاضوا في موضوعات المرأة والتقارب وجملة موضوعات تختلف تماماً مع الفكر السلفي؟..
لست أدري ما سبب تجاهل د. أبوالمجد للسؤال، وظني أن السؤال ربما حاد عن سياسة (الاثنينية) التي لا تحبّذ الخوض في الطائفية والمذهبية والسياسة، مما استلزمني –أدباً مع المضيف الكريم- بعث ورقة اعتذار له إن أسأت مع ضيفه وضيفنا الكبير. وبعيداً عن (الاثنينية) التي جعلتها مدخلا لمقالتي اليوم التي تتحدث عن الحالة السلفية المصرية التي فوجئت الساحة الفكرية العربية بهذا الحضور والزخم لها مع هذه الهبات الشعبية التي تجتاح الوطن العربي.
أتصور أن بدايات هذه السلفية في مصر؛ كانت مع محمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وجماعة أنصار السنة المُحمَّديَّة وعلمائها؛ كمحمد حامد الفقي، وعبدالرزاق عفيفي – قبل سفره للمملكة وتجنّسه ووصوله لعضوية هيئة كبار العلماء لدينا- ومجموعة علماء شكّلوا البذور الأولى للسلفية المعاصرة، وبإقرار أحد أعمدتها الحالية محمد إسماعيل المقدّم– بحسب الباحث المصري أحمد سالم- حيث لم تكن السلفيّة المعاصرة لتقوم، لولا الأسس التي أرساها أولئك الذين تقدَّمت أسماؤهم.
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وبينما كان التيار الإخواني لا يزال يُلملم جراحه الناصرية، والتيار الجهادي لا يزال يتحثَّث خطواته، وعن طريق زيارات متعددة للمطبعة السلفية لصاحبها محب الدين الخطيب – بعد وفاته - وعن طريق لقاءات مع بعض من يحملون البذور السلفية في الإسكندرية؛ نشأ أقدم تيَّار سلفي في مصر، وهو ما يُعرف بـ: (سلفية الإسكندرية)، مُستغلَّا النشاط الديني الجامعي، وأهم قيادات هذا التيَّار هي: محمد إسماعيل المقدم، ياسر بُرْهامي، سعيد عبدالعظيم، أحمد فريد.
وأهم خصائصهم هي:
أ- اعتناق الأفكار الرئيسية لسلفية شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبدالوهاب.
ب- القوة والقدرة التنظيمية الكبيرة، التي تؤهِّلهم لحشد مئات الألوف من السلفيين بمجرد طلبهم، وهو الأمر الذي يجعل البعض يتهمهم بالتأثُّر بالإخوان المسلمين تنظيميّا.
جـ- الاستقلال العلمي والفكري عن الرافد السلفي الموجود لدينا في السعودية، والاستقلال بصورة أكبر عن الرافد السلفي الألباني.
د- الاهتمامات الفكرية والإصلاحية بصورة تفوق أكثر فصائل السلفية، من غير أن ترقى لمرتبة المشاريع الفكرية والإصلاحية التامة.
هـ- البعد التَّام عن الأنشطة السياسية، إيماناً بقلَّة جدواها.
و- الخصومة الكبيرة مع الإخوان المسلمين، والتي تُغذِّيها معاركُ النَّشأة في السبعينيات.
في منتصف الثمانينيات: بدأت تظهر أسماء جديدة في سماء الدعوة السلفية، وهي: مصطفى العدوي، وأبو إسحاق الحويني، وهما مُمثِّلان للسلفية العلمية التقليدية، التي تشترك مع سلفية الإسكندرية في نبذ المشاركة السياسية، وتزيد عليها بقلة الاشتغال الفكري، وفقدان الأطر التنظيمية.
وفي الوقت الذي يُعدُّ فيه العدوي – رغم تتلمذه على مُقبل الوادعي– مُمثلاً للرافد السلفي السعودي؛ فإن الحويني يُعدُّ ممثلا بامتياز للرافد السلفي الألباني. وإذا كانت سلفية الإسكندرية لا تصطدم مع الحكومات – رغم اعتقاد ممثليها بكفر من يُنحِّي الشريعة – نظراً لما في هذا الصدام من مفاسد؛ فإن العدوي لا يُحبِّذ هذا الصدام، لاعتقاده أن من نحَّى الشريعة لا يخرج بذلك عن حظيرة الإسلام.
فهذا الخط السلفي خط علمي، دعوي، وعظي، يشتغل بالسنة والدفاع عنها، وبالفقه والفتاوى، دون أي اشتغال إصلاحي أو فكري. ويماثلهم في ذلك الغالبية العظمى من دعاة وعلماء أنصار السنة المحمدية.
بالنسبة لسلفية القاهرة، فإن أهم قياداتها: محمد عبد المقصود، نشأت أحمد، فوزي السعيد، السيد العربي. هذا الفريق أشبه بسلفية الإسكندرية، في الاشتغال الفكري والإصلاحي، مع بعدهم عن الهيكل التنظيمي، ومع كونهم أعلى صوتاً، وأصرح عبارة في الهجوم على الحكومات.
في أول التسعينيات، ثم بعد منتصفها: بزغت أسماء أخرى؛ هي: محمد حسّان، ومحمد يعقوب. وهما يمثلان خطاً وعظياً صحوياً بامتياز.
تبقى بعد ذلك بعض الأطياف قليلة التأثير، كالجامية أو المدخلية المصرية، وربما أهم قيادات هؤلاء: أسامة القوصي ومحمد سعيد رسلان وهناك أيضاً بعض السلفيين المتأثرين بالسلفية الجهادية.
ما زلت شخصياً في حيرة من هذا الإقبال المتنامي للشعب المصري على السلفية، وفي سؤال لكاتب السطور للباحث المصري أحمد سالم عن ذلك؛ أجابني بأن الهجوم الضاري عليه من قبل الساسة والإعلام الرسمي هو الذي يغذّي هذا التيار ويعرّف به، ويزيده جماهيرية. وحيال خفوت التيار الفكري الإسلامي، والذي يمثله د. أحمد كمال أبو المجد وبقية الأسماء الآنفة، أجابني بأن ذلك التيار يعاني بشدة من عدم قدرته على تحويل الثقافة النخبوية إلى ثقافة جماهيرية! فالجماهير لا تصبر على المقالات التي يكتبها هذا الفريق، وإذا صبرت لم تفهم، وإذا فهمت مال ميزان الترجيح الفكري نحو خطاب المسجد الأقدس مكاناً، والأسهل عبارة، والأقرب معاناة من الجماهير اليومية، باختصار؛ يعاني هذا الخطاب أيضاً مما يُسمَّى: أوهام النخبة.