يدخل (ادسو) في صراعات دامية، يتناحر الكرادلة وتنتشر مكائد الآباء، فيتفشى الفساد وتفيض الأديرة بروائح نتنة تفوح من الأرواح قبل الأجساد وحجارة المكان. تقريبا هذا هو الانطباع الأقوى بقاء في الذاكرة التي مرت على (اسم الوردة) الرواية التي أصدرها أستاذ السيماء الإيطالي (امبرتو ايكو) سنة 1980، وراجت في الساحة العربية بعد ترجمتها إلى لغتنا الجميلة في منتصف التسعينيات تقريبا وشكلت هوسا في تلك الأيام، لكنه لا يماثل ما حدث من هوس شيفرة دافنشي لدان بروان، رغم انتماء العملين لتيار الرواية البوليسية، التيار الذي ربما يتربع على الصدارة في كل العالم تقريبا.
من يتذكر جيدا، لا أظن سيغيب عن تأملاته الفرق ما بين زمنين قصيرين جدا، منتصف التسعينيات ونهاية العشرية الأولى للألفية الثالثة، حيث الانفجار في وسائط الميديا والثورة المعلوماتية، والمفارقة أنه تزامن مع تصاعد قوى التطرف وانبعاث القوميات والعرقيات وتراجع قوى التفكير العقلاني والمستقلين، وقيم أخرى كثيرة ستدفع البشرية ثمنا باهظا لها إن لم تنجح في احتوائها، لكن هذا ليس محور حديثي الآن فقد كنت أتأمل مسترجعا مضامين الروايتين اللتين حظيتا باهتمام قسط كبير من القراء العرب خاصة الأخيرة (شيفرة دافنشي) في زمن صارت الناس فيه تميل للقراءة بالسماع وما يحدثه الكتاب من ضجة.
تذكرت كيف استحضر ايكو أوروبا في القرون الوسطى، وانشقاق الكنيسة وهيمنتها على المعرفة، ونصب أمامنا عوالم الرهبان في الأديرة، وجعلنا نلامس انهيار القيم، وكيف رزحت أوروبا تحت وطأة الصراعات الدينية حتى فاض الكيل وتم التوصل لحركة الإصلاح الديني وتحقق الاستقرار، فمضى المجتمع يعمل في الإنتاج.. يخترع الآلة، ويبتكر الدواء.. ويشم الهواء.
ايكو الذي برر تسمية روايته هذه التسمية بأن العنوان (يجب أن يشوش الأفكار، لا أن يقولبها)، عندما تعيد قراءة روايته يجعلك تبدو كمن يعيد ترتيب التشويش فقط. والاشتغال على إعادة التشويش، يجعل من التشويش شيئا مستديما بدلا من التنمية المستدامة، حسب ما نسمع كثيرا في معظم المؤتمرات والمنتديات العربية. وفي تقديري أن للقولبة علاقة بديمومة التشويش، خاصة فيما يتصل بتعاملنا مع التاريخ وعبره، وهذا ما يعيدني لسنوات الطفولة، حين كان بعض الزملاء في المدرسة يتذمرون من مادة التاريخ وكثرة التواريخ المطلوب حفظها فيندفعون متبرمين وبلا وعي متسائلين (لماذا ندرس التاريخ، ولماذا يرهقوننا بحفظ تواريخ كل المعارك والدماء التي سالت قبل مئات السنين؟)
كان سؤالا طفليا، لم نعثر على إجابة عنه تؤسس وعيا بماهية ومعنى أن ندرس التاريخ.