الظلم حسبما تعارف عليه الناس هو إيقاع الحيف والأذى والعدوان بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الآخر والغير، على نحو مادي أو معنوي، بالضرب بدون مبرر أو الأذية البدنية والمادية أو بالتهديد من حيث لا حاجة له.
قد يكون هذا هو المعني بالظلم أو أكثر أو أقل، ولكن هذا هو المعنى الإجمالي الذي يتفق حوله البشر وتدور حوله نشاط جمعيات العالم من مجلس الأمن العالمي أو جمعية الأمم المتحدة أو الجمعيات الإنسانية المتناثرة حول العالم.
الظلم حسب الفلسفة العالمية هو من طرف على آخر، ولكن القرآن والحديث يظهر نوعا جديدا كل الجدة من الظلم هو إيقاع الظلم من نفس الطرف على نفسه بتعبير القرآن (ظلموا أنفسهم) فهذه هي فلسفة جديدة تبدو بشكل مفاجئ على نحو غير متوقع فلا يعقل أن يقوم الإنسان بهذا الفعل تجاه كينونته إلا أن يفقد عقله أو يؤذي نفسه وهو في حالة غيبوبة أو نوم أو تنويم أو ما شابه؟
الحديث والقرآن يقول لا.. إن الإنسان وبكامل إرادته يقوم بإيقاع الظلم على نفسه بيده طائعا مختارا بكامل الأهلية والعقلانية بما يعجز عنه أهبل ومجهول ومجنون وهو ما يفعله البشر في ذاتهم من حيث يشعرون أنه هو الأفضل وهو الأسوأ وهو جدل الإنسان المحير..
تأمل معي هاتين الآيتين من سورة الكهف (103 ـ 104): قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا..
أو هذه الآية (8) من سورة فاطر: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون.
وفي معركة أحد والرسول ص مجروح كان يقول يا رب إنهم لا يعرفون ما يفعلون من أذية نبيهم؟ وهو ما ينقل أيضا عن المسيح ومحاولة السنهدرين (مجلس الفقهاء وعلماء المعبد اليهودي) البطش به..
وفي سورة البقرة يأتي الحديث عجيبا عن المنافقين الذين يظنون أنفسهم أذكياء حاذقين يضحكون على الناس؟ فيقول القرآن إن هناك عالم اللاشعور (ولكن لا يشعرون) ويعقب أن الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، ومنه قال روبرت غرين في كتابه القوة في فصل كامل أبدو مغفلا كي تمسك بمغفل ويشرحها في أمثلة لذيذة.
أقول كل هذا لأن أختا فاضلة في تعليقها على مقالتي عن الأوديسة والدياسبورا أرادت مني مزيدا من المضي في مشروع الأحاديث الحيوية وفي هذه المقالة أشير إلى هذا المفهوم الذي عرضه حديث أبو موسى الخولاني وهو يؤكد معنى الظلم الذاتي بحديث طويل مكون من عشر فقرات يمكن مراجعته في الصحاح حيث يبدأ بالقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا.. ثم يسترسل في نغم جميل كأنها الموسيقى المنعشة؛ كلكم جائع إلا من أطعمته.. كلكم عار إلا من كسوته.. لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا ما ينقص المخيط (الإبرة) إذا أدخلت البحر.. وفي النهاية يجثو أبو مسلم الخولاني على ركبتيه خاشعا وهو يقرأ الفقرة الأخيرة إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه..
إنها فلسفة جميلة أليس كذلك؟
أجمل ما فيها تحرير الطاقة في مواجهة المعضلات والاختلاطات والمصائب، فلوم الآخر هو الكلمة المختلفة أن يتوقف الجهد طالما أن الآخر هو المسؤول عن الخطأ؟ هل سمعتم عن الشرطة الجنائية أنها تتابع البحث إذا أمسكت بالمجرم..
هذا هو الفرق تماما بين فلسفة تتوجه إلى الذات بالنقد والتمحيص وحصة المشاركة، وبين من يلوم الآخر ويسترخي ويقعد..