جدة: خالد المحاميد

محمد حسين: الحدائق التي أنشأناها أحدثت تحولا بنيويا في العلاقات الاجتماعية داخل الأحياء المحيطة بها

أن تحلم فهو أمر طبيعي، وأن يتحقق حلمك فهذا أمر ممكن، أما أن يتجاوز الإنجاز ما كنت تحلم به فهذا أمر لا يحصل إلا نادرا، خصوصا إذا كان حلمك من أجل الآخرين، وهي الحكاية التي حدثت مع سيدة سعودية تدعى زكية بندقجي. لا أعرف من تكون السيدة بندقجي، وربما هي لا تريد أن يعرف أحد من تكون، غير أنك لا تستطيع وأنت تنتقل من حديقة يخيم عليها دفء العلاقات الإنسانية، إلى أخرى تتدافع فيها صبايا مراهقات يمشين مطمئنات في جو أسري تحت أعين أبائهن وأمهاتهن، إلى حديقة ثالثة يتراكض فيها أطفال خلف كراتهم غير قلقين من سيارة عابرة، أو من وحش بشري يختطف براءتهم، لا يمكنك أن تعبر هذا المناخ من دون أن تشعر بقيمة ما أنجزته كامرأة من هذا المجتمع.

10 سنوات من العمل
ذات يوم كانت زكية بندقجي تمر بسيارتها، إلى جانب أرض فضاء، في أكثر أحياء جدة فقراً، وأكثرها اكتظاظاً بالسكان. كان الأولاد الفقراء الذين مزقت حياتهم عوضاً عن ملابسهم حياة الفاقة والجوع، يتدافعون فوق الأرض الصلبة الخشنة، ويتشاجرون بين الحين والآخر، من أجل كرة لم تصب هدفها، أو من أجل كلمة نابية حيث لا تخلو شجاراتهم من دم يراق أو يد تكسر، وكانت الفتيات يتجنبن المرور بالقرب من هذا المكان، الذي لا يعرف لغة غير لغة العنف.
فكرت ساعتها بندقجي، هل يمكن تحويل هذا المكان إلى حديقة، وهل يمكن تغير سلوك هؤلاء الصغار، متسائلة هل يمكن زرع بذرة أمل في نفوسهم، وكان الجواب جمعية أصدقاء حدائق جدة. تقول مسؤولة الإعلام في جمعية أصدقاء حدائق جدة، ميان الزواوي، وهي شابة تخرجت من الجامعة الأمريكية في القاهرة، إن العمل في الجمعية بدأ منذ 10 سنوات، تحت مظلة الغرفة التجارية بالشراكة مع أمانة جدة، وقد بدأنا هذا العمل بصمت. بدأت الفكرة من السيدة زكية بندقجي، حين فكرت بأن أمانة جدة تمتلك الكثير من الأراضي المخصصة لتكون حدائق أو ملاعب داخل أحياء مدينة جدة، لكنها لأسباب تعود إليها، لم تتمكن من إحياء هذه الأراضي وتنفيذ مشاريع ترفيهية عليها، وإن فعلت ذلك، تنتهي هذه المشاريع عادة إما بالإهمال أو بالدمار، حيث يقوم الصبية بتخريب كل شيء. مضيفة من هاجس الشعور بالواجب، نشأت فكرة تأسيس الجمعية التي تكونت من 3 سيدات سعوديات، هن: زكية بندقجي، وسلوى رضوان، وسميرة نيازي، و 4 رجال، منهم رئيس مجلس إدارتها، المهندس محمد الفايز، واختارت زكية بندقجي أن تكون نائباً لرئيس مجلس الإدارة.
اكتساب الثقة
المشوار كان طويلا، وهو كما تقول زواوي لزم على الجمعية في البداية أن تكتسب ثقة الغرفة التجارية، وأمانة جدة، والمحيط الاجتماعي، بما فيه الأسر الغنية، ورجال الأعمال. وتبلورت الفكرة على أن نعمل للحصول على الأرض من أمانة جدة، والحصول على التمويل من القطاع الخاص، على أن يكون الهدف منطقة جنوب جدة، التي هي الأكثر ازدحاماً بالسكان والأكثر فقراً، ووقع الاختيار على أرض جرداء في النزلة اليمانية، لتكون بمثابة تجربة أولى نموذجية، حيث تبرع الشيخ محمد يوسف زاهد بتمويل المشروع، باعتباره صدقة عن روح ولده فيصل، الذي فجع به في حادث سيارة، وأطلقنا على الحديقة اسم حديقة فيصل الرياضية، حيث تم تدشينها في مارس 2007.
ويروي عضو مجلس إدارة الجمعية، محمد حسين علي، وهو شاب يعمل مستشاراً مالياَ، سبب تأخر الجمعية في الإعلان عن إنجازاتها بقوله كنا نريد أن نطمئن بأن المشروع أنجز وحقق أهدافه قبل الإعلان عنه، لذلك رصدنا أثر حديقة فيصل الرياضية، على مجتمع الحي الذي أقيمت فيه لأربع سنوات، وكانت من نتيجتها 2000 عضو، و70 فريقاً رياضياً من أبناء الحي، بما في ذلك فريق لذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن شرطة الحي كونت هي الأخرى فريقاً لكرة القدم.
وقد أقيمت حديقة فيصل الرياضية على مساحة 10 آلاف متر مربع، لتكون حديقة عامة مسورة ومكسوة ببساط أخضر، وتتوفر على عدة مرافق، يديرها عدد من الموظفين مدفوعي الأجر، وقامت أمانة جدة بإنشاء البنية التحتية، وبتوفير عمال النظافة.
تغييرات بنيوية
لكن هل هذا هو كل شيء؟، تساؤل طرحت الوطن، وأجابنا عليه محمد حسين علي ضاحكاً، قائلا بالتأكيد واجهنا الكثير من المشاكل، وعمليات التخريب المعتادة، من الشبان، لكننا تغلبنا على ذلك باستحداث برامج تنمية اجتماعية للشبان والشابات، مع توفر ملاعب لكرة القدم واليد والسلة، إلى جانب أراجيح للأطفال، وممرات للمشي، لاحظنا بعد 4 سنوات كانت تحولاً كبيراً في مفاهيم وسلوك سكان الحي، وعلى ضوء مقدمات دراسة نقوم بها تبين أن الحديقة أحدثت تحولاً بنيوياً في العلاقات الاجتماعية داخل الأحياء المحيطة بها، وتغير بشكل كبير سلوك الأفراد، وانخفضت نسبة العنف بشكل ملحوظ، مع ارتفاع واضح في حس المسؤولية، بحيث صار سكان الحي يدافعون عن حديقته، ويقومون بإرشاد زوارها، ووفرت البرامج فرص العمل لبعض الشبان، حتى إن أحدهم يهاتفنا من دولة قطر، وقد تسلم منصباً صغيراً في أحد البنوك القطرية.
نجاح التجربة
أما لماذا الإعلان الآن عن إنجازات جمعية أصدقاء حدائق جدة، تقول سميرة المزجاجي، عضو مجلس إدارة الجمعية، إن السبب في ذلك يعود إلى أن القائمين على الجمعية يعتقدون أن التجربة قد نجحت، وأن الإعلان عنها مع تدشين الحديقة الثالثة، التي تبلغ مساحتها 27 ألف متر مربع، أصبح الآن ممكنا. فهذه الحديقة تضم مسرحاً وقسماً للأراجيح، وممشى بطول 500 متر لممارسة رياضة المشي، وهي مفتوحة للأسر التي وجدت فيها متنفساً لها ولأبنائها، وقد تطوعت 60 سيدة من الحي لمتابعة إرشاد الزوار إلى المحافظة على ممتلكات الحديقة، التي قامت بتمويلها 3 أسر، هي: آل زاهد، وآل عبدالجواد، وآل زينل، وقد سمينا الأبواب الثلاثة للحديقة بأسماء العائلات المتبرعة، وأطلقنا اسم أميرة على الحديقة لأن الأرض تعود ملكيتها إلى السيدة أميرة محمد طرابلس، وهي تضم كذلك مبنى للتدريب على المهارات، وآخر للإدارة،
وإلى جانب حديقة أميرة التي غدت معلماً من معالم حي النزهة، أنشأنا أيضاً حديقة نزيه وورطان، على مساحة ألف متر، وهي حديقة تبرع بتمويلها البيك، وأطلقنا اسم الشخصيتين الكرتونيتين اللتين تستخدمهما شركة البيك على الحديقة. وتضيف سميرة، ساردة تفاصيل الحديقة في خارج الحديقة أقمنا خيمة واسعة بمقاعد ثابتة، ومساحة من الأرض، وهي مخصصة للاحتفالات والمناسبات، التي يقيمها سكان الحي. وتبدي أسما السليمان وهي متطوعة كثيراً من التفاؤل حول مستقبل المشروع، وتقول لو لم أؤمن بجدواه لما تطوعت للعمل فيه، وأنا سعيدة لأن جهود العاملين في الجمعية بدأت تثمر.

جهات متعاونة
هذا النجاح، وحماسة القائمين على المشروع، دفع جهات عدة للتعاون والدعم، وهو نجاح أسس لعمل مدني متكامل، حيث كما تقول ميان زواوي، قدمت أمانة جدة مساعدة قيمة، وجهات أخرى مثل جمعية أصدقاء جدة، والندوة العالمية للشباب الإسلامي. وتلفت زواوي الانتباه إلى أن الجمعية تقبل متطوعين من كافة الأطياف والمستويات، فالمهم في هذه التجربة هو الإخلاص والتفاني، لجعل مدينة جدة عروسا بحق في بحرها وحدائقها، ليس بهدف جمالي فقط، وهو مسألة مهمة، بل وأيضاً من أجل تجميل الحياة نفسها، خاصة في الأحياء الفقيرة، التي تحتاج إلى لمسات مخلصة لإدخال الفرح إلى قلوب سكانها.