العصر الحالي يفرض صراعا أقل حدّة خصوصا في مجتمعات أثبتت ميلها للسلم كما حصل في تونس ومصر. وبالتالي فإن صراع القوى الثورية والقوى الجديدة الناشئة سينعكس بالضرورة على شكل الحكومات القادمة

تقوم فكرة الدولة الحديثة على معادلة مهمة جدا تضبط توازن القوى داخل أجهزة الدولة بحيث لا تستبد جهة ما بالقوة فتطغى وتستبد. الجهات الثلاث الأساسية: التشريعية والتنفيذية والقضائية هي جهات متقابلة تم تصميم صلاحياتها ومجال عملها بحيث تحدّ كل واحدة من سلطة الجهة الأخرى لتمنعها من الاستبداد. الجهة التشريعية مثلا محدودة بضوابط تفرضها الجهات القضائية فلا يحق للمشرعين مخالفة الدستور مثلا أو إصدار قوانين متعارضة. كما أن الجهات التنفيذية المتمثلة في الحكومة لا يحق لها التشريع كما أن عليها رقابة من الجهات القضائية لضبط عملها وفق النظام. هذا التزاحم بين هذه القوى هو ما يحفظ توازن المجتمع من استبداد طرف على طرف. والقانون هذا، أي قانون التوازن، هو قانون طبيعي وإنساني يضبط قوانين الفيزياء كما قوانين المجتمع. القوة الفيزيائية لا تثبت في حدودها إلا بفعل قوة فيزيائية أخرى وإن لم تتوازن القوى قضت إحداهما على الأخرى. الأسرة والمجتمع كذلك فلو لم يواجه كل منا يوميا قوة أخرى تدفعه للقيام بمهامه والتوقف عند حدوده لتمادى في توسيع صلاحياته والتملّص من مسؤولياته.
ما أريد الحديث عنه هنا تحديدا هو أن فكرة توازن السلطات داخل الدولة كانت نتيجة لتوازن الصلاحيات داخل المجتمع ذاته. التجارب المؤسسة للدولة الديموقراطية الحديثة، الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، كلها تثبت أن ما تم التوصل له في الدساتير ولاحقا في التنفيذ كان نتيجة صراع قوى اجتماعية داخل المجتمع ذاته مما يعيدنا إلى فكرة أساسية وهي الحراك الاجتماعي وحيوية المجتمع وفعاليات قواه المختلفة. أعتقد أن هذا سؤال مهم جدا حين نفكر فيما بعد الثورة في تونس ومصر فالأنظمة السابقة عملت بكل جهدها على قتل الحراك الاجتماعي في المجتمع. وقمعت القوى المختلفة والتي كانت يمكن أن تمثّل قوى سلمية مضادة ومخالفة. وبالتالي فإن مؤسسات الدولة التي يفترض أن تعكس حال المجتمع خلت من التوازن واستفردت بها الأحزاب الحاكمة. السؤال المهم اليوم هو عن القوى الاجتماعية التي يفترض أن تتشكل اليوم وبسرعة من أجل إحداث التوازن المطلوب خصوصا وأن الرهان على دور الجيش رهان محفوف بخطر عظيم.
في بريطانيا، كانت الديموقراطية نتيجة صراع طويل بين الملك والنبلاء وفي أمريكا كانت الدولة الحديثة نتيجة مفاوضات ومناورات بين عدد هائل من القوى السياسية والتجارية والدينية وفي فرنسا كانت حكومات ما بعد الثورة تعبيرا عن صراع أطراف عديدة في المجتمع انتهت إلى دولة الدستور والحريات الحالية. عربيا، أعتقد أن النموذج الفرنسي سيكون أقرب واقعيا للتجارب العربية. فالثورات العربية الأخيرة فتحت المجال لتشكّل عودة الحياة لعدد من القوى الاجتماعية بعد أن تم ضربها على مدى عقود من الزمن من خلال نظام الاستبداد السابق. أعتقد أن التجارب العربية ، في مصر وتونس، ستشهد حكومات غير مستقرة نسبيا وقصيرة العمر يتمثّل فيها تشكل أطراف القوى الجديدة في المجتمع.
في بريطانيا، نضجت القوى الاجتماعية والحراك السياسي بالتوازي دون حدوث فراغ سياسي وإسقاط للحكومة. أمريكا، كانت عدم مركزية الحكومة وفيدراليتها ومحدودية صلاحياتها كفيلة بتخفيف الضغط عليها من قبل أطراف المجتمع. في فرنسا وفي مصر وتونس الدولة مركزية. بمعنى أن الدولة تدير الشؤون الحياتية للمجتمع فهي تشرف على الاقتصاد والتعليم والصحة بالإضافة إلى الدور الأمني. وبالتالي فإن الدولة ذاتها ستكون ساحة الصراع الاجتماعي ونمو جماعات وقوى جديدة تتمثل في مجتمع يعود للحياة بعد عمر طويل من الكبت والمرض. الثوار والملكيون والبرجوازيون والعمال والعسكر كانوا عناوين الصراع أثناء وبعد الثورة الفرنسية وكل صراعهم ظهر وتمثّل داخل مؤسسات الدولة. تبادل للحكم، انقلابات، محاكمات، نابليون وإعلان الإمبراطورية حتى استقرت بهم الحال إلى الدولة الفرنسية الحالية.
العصر الحالي يفرض صراعا أقل حدّة خصوصا في مجتمعات أثبتت ميلها للسلم وقوّة تماسكها الداخلي كما حصل في تونس ومصر. وبالتالي فإن صراع القوى الثورية والقوى الجديدة الناشئة والقوى العائدة من غياهب الاستبداد أو من المنافي سينعكس بالضرورة على شكل الحكومات القادمة، والتي من الطبيعي أن تكون حكومات مهزوزة وقصيرة العمر تتبعها حكومات أخرى تمثل أطرافا أخرى. ستكون هذه الحالة تعبيرا عن صحيّة الأجواء في تلك المجتمعات وارتفاع يد الاستبداد عن المجتمع. يفترض أن يتمثل التغيير الثوري في مجتمع نشط وحركي جدا وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح حتى في المجتمعات التي لا تزال تناضل للحرية في الدول العربية الأخرى. المجتمع يتسيّس وينشط من جديد ويعود للاهتمام بالشأن العام. في المقابل لا بد أيضا من حكومات متحركة وسريعة وتنفيذية أكثر من أي شيء آخر.
التحدي الكبير الآن يكمن في تشكّل جماعات وقوى وتيارات وأحزاب اجتماعية وفكرية وسياسية تتصارع فيما بينها سلميا وتصل بالمجتمع إلى حالة من التوازن الطبيعي يكفل للجميع الحركة دون أن يطغى طرف على طرف آخر. التحدي في عودة المعادلة التالية: مجتمع فاعل ونشط ومهتم بالشأن العام. حكومة تنفيذية، قوى تشريعية منتخبة بنزاهة وتعكس جميع الأطراف على الأرض، أجهزة قضائية محترمة. هذه المعادلة لا بد أن تحدث بصخب وبحركة غير ثابتة. إنها عملية ولادة جديدة لجسم هائل وضخم، عملية فيها هدم وبناء ولا بد أن تحتوي على أخطاء وتجاوزات ولكن الأهم في كل هذا أن تكون الحركة العامة باتجاه المزيد من الحرية والمساواة وأن تكون الحركة سلمية لأعلى قدر ممكن.