كانت ظله الأثير تتبعه أنى رحل. . وتحيط بتعبه وحمى كدحه وتعبه كحزام واق من الصدمات والإحباطات إلى أن سقط في حياض حنانها كشجرة تعانق ظلها وتودعه الوداع الأخير. ماتت الشجرة ولم تسقط لأن الأشجار تموت واقفة، لكنها اهتزت خوفا وهلعا وهي توشك على مفارقة ظلها فراقا أبديا: من لهذا الظل الظليل من بعد الرحيل؟ من يحميه من هجير الحياة وغدر الزمان؟
شهقت خيرية وأجهشت بالبكاء وهي تتذكر اللحظات الأخيرة لتوأم روحها محمد صادق دياب قبل أن يسلم الروح لبارئها في صقيع الغربة. مات حادي جدة وعاشق بحرها. . وعمدة حاراتها والعسة الذي سهر على تسجيل تاريخها، وحفظ حكاياتها وأسرارها، وترك خلفه خيرية وبناتها، وجدة.
مات حبيب خيرية وأبو البنات لكنني رأيته يرفل في محاجرهن. . ويتربع على عرش قلوبهن خالدا مخلدا في أيقونة ذاكرتهن. رأيتها غنوة التي استغنى بها عن الولد، وارتضاها أبو غنوة كنية له يرفع بها رأسه بين أقرانه في كل محفل؛ ورأيت سوسن ، الزهرة الوسطى؛ وسماح، آخر العنقود. إنهن حقا أجمل الكائنات حتى وهن شاردات، يتشحن الصمت، و مجللات بسواد الحزن وقلق الغياب. وهنا تذكرت آخر مقال له : أبو البنات الذي كتبه قبل وفاته بأسبوع، ووصف فيه الإناث بـأفضل الكائنات . . كتبه وهو على سريره كما أخبرتني خيرية، حين طلب منها فجأة إحضار اللابتوب ليكتب، وأشار إلى اللاب توب الصغير الذي تستخدمه خيرية وليس جهازه الخاص، وأصر على الكتابة فيه. ولم تمض عشر دقائق حتى انتهى من كتابة المقال الذي ناولها إياه لتقرأه وتبدي رأيها فيه:
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=11811&article=615101&search=محمد صادق دياب&state=true
كان رحمه الله سعيدا بهذا السياج الأنثوي الذي انغرس فيه طواعية وعشقا ووفاء، ولم يسع يوما للخروج من شرنقة خيرية ليحظى بولد يمنحه لقبا ذكوريا يرضي فحولة الثقافة المحيطة به أو يحدد هويته الاجتماعية ويطرز بريستيجها وفقا لنسقها.
لم يكن محمد دياب عاشقا لجدة فحسب بل كان معجونا بتراب الأنثى فيها، يتقصى خطواتها الأولى حين هبطت جدة، المدينة الأنثى التي باحت بأسرارها له، فانثال يكتبها سردا في مقام حجاز ، وإذ هي تهمس في حنجرته:
أنا المدينة الأنثى، على أرضي هبطت حواء من السماء، فكنت مسرحاً لحياتها، وحضناً لرفاتها
كانت جدة هي جذوة هذا العشق السرمدي للحياة والجمال ولكل ما تمثله الأنثى من عطاء وطهر وقوة تكمن كلها في طبيعتها وتكوينها الذي منحها الله إياه، فهي أصل الحياة، وهي سفر البدء وسفر الانتهاء. ويبدو أن هذا ما تشرب به محمد دياب، وما استقر في ثقافته ونظرته الراقية للمرأة. فها هو يسطر ملحمة عشق موازية لزوجته خيرية، وحب واعتزاز لبناته. وها هو يهدي كتابا لجدته مريم، وها هو أخيرا يدفن بين قبري فاطمة وآمنة- أمه وخالته.