موضوعان في قضية التعليم، يحدث خلط كبير بينهما لدى كثير من المعلمين على اختلاف مراحل التعليم، سواء أكان في التعليم العام أم العالي، إنهما التعليم والتعلُم!
وضعَ أسئلة الاختبار سؤالاً سؤالاً، هناك سؤال فوق مستوى الطلاب، صعب، لا يتناسب مع قدرة الطلاب وهم في بداية المرحلة السريرية، فكر فيه، قدم يداً وأخر أخرى، هل يلغيه؟ لكنه سؤال جميل، تعب واجتهد في وضعه ليخرج في صورة منسقة جميلة، ثم إنه قام بشرح موضوعه في المحاضرة بإسهاب، فإذن لا حجة للطلاب في عدم الإجابة عليه! قررأن يبقيه من ضمن الأسئلة، وأقنع نفسه أنه سؤال مهم، ومن ثم تأتي المفاجأة كصاعقة، 90% من الطلاب أجابوا على السؤال إجابة خاطئة! فأين الخلل؟
هناك موضوعان في قضية التعليم، يحدث خلط كبير بينهما لدى كثير من المعلمين على اختلاف مراحل التعليم، سواء أكان في التعليم العام أم العالي، إنهما التعليم والتعلُم! فالأستاذ يعلم ولكن الطالب هو الذي يتعلم! بمعنى أنه ليس كل من درس، وقدم محاضرة، هو في الحقيقة قد أدى دوره كما يجب في التدريس! وليس كل من قال إنه معلم هو في الحقيقة معلم! ولذلك يعجبني أحد التعاريف التي مررت بها والتي تعرف ما هي حقيقة العملية التعليمية، وهو مترجم إن التعليم هو مجموع الأنشطة التي تنعقد لتحفيز وتشجيع التعلُم، بمعنى أن المحاضرة وحدها ليست كفيلة بضمان فاعلية التعليم! بمعنى أن مجرد ذكر معلومة للطلاب لا تؤهلك أن تقيم الحجة عليهم بأنهم قد تعلموها!
إن التعليم عملية متشابكة، صعبة، معقدة! إنها تشمل منهجاً معاصراً متجدداً، فيه علاقة واضحة وظاهرة بين ما يدرسه الطالب وما يجب أن يكونَ عليه بعد التخرج، وتشمل أساليب تدريس، متعددة، متنوعة، حديثة، فيها تحفيز على التفكير، وثقافةالمساءلة، والشك فيما يظن أنه ثابت، وتشمل أساليب تقويم فعالة، وتشمل معلماً مثقفاً، مؤهلاً، واعياً بأساليب التدريس والتقويم، يعرف كيف يتأكد من أن تدريسه كان فعالاً أم لا؟ وتشمل قبل كل ذلك وبعده: بيئة تعليمية محفزة! ومن ثَمَ نأتي ونبحث عن الطالب، لنؤهله مهارياً حتى يتمكن من الترقي في سلم التحصيل، ونوجهه أكاديمياً لنحل له عقد المناهج العقيمة ونحصنه من عقد بعض الأساتذة، ونبني شخصيته في أنشطة لا صفية، فيها قوة فكرية وبدنية، وراحة نفسية، والآن وبعد كل هذا يجوز لنا أن نسأل السؤال الشرعي الصحيح: هل تعلًم الطالب أم لا؟ أما قبل ذلك، فهو سؤال باطل، بل منكر! سؤال هو في منزلة الممنوع من الصرف بل الذي لا محل له من الإعراب!
ومما يلحق من مفاهيم ومبادىء مهمة حول هذا الموضوع، هو مفهوم الإخلاص والصواب في نجاح أي عمل شاملاً العملية التعليمية، وهذا مبدأ قرآني بإمتياز، يقول تعالى:فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً! عرف هذا الفضيل بن عياض فقال: الإخلاص والصواب! وما هذا إلا تأكيد لما سبق وأني ذكرته في أطروحة سابقة من أن مباديء التعليم والتعلم ما هي في الحقيقة إلا مباديء لحياة سليمة منتجة فعالة! فالتربية هي الحياة نفسها كما عرفهاأحد الفلاسفة! فلكي ينجح أي عمل يجب أن تصح الإرادة ويصدق التوجه ويتضح الهدف، ومن ثم تأتي تابعة طرق وآلية التنفيذ التي يجب أن تكون بأساليب حديثة ومتطورة وفعالة وصائبة، ، إنه وكما عبَر أحد خبراء التعليم الطبي بأننا لا يجب أن نفعل الأشياء الصحيحة وحسب بل يجب أن نفعل الأشياء بطريقة صحيحة! يقول الفيلسوف الفرنسي مونتاني: إن المعرفة الحقة هي التي تصنع العقول بطريقة جيدة، وليست التي تملأ العقول بطريقة جيدة!
وكم اكتوينا وما زلنا نكتوي من ضياع بوصلة التعليم والتدريب لدى كثير من الأساتذة في التعليم العام والخاص والعالي! ما زلت أذكر مدرساً لإحدى المواد الدينية في المرحلة الثانوية، يكتب نقلاً من الكتاب على السبورة برداءة خط وهذا مقبول إلى حد ما ولكن بأخطاء إملائية كانت محل تندر الطلاب! أوالآخر الذي هو أيضاً مدرس لمادة دينية أخرى إذا أهَلَّ داخلاً الفصل الدراسي هلت معه رائحة الدخان! أما مدرس القرآن حديث التخرج الذي يضع ساقه منهياً بحذائه ممدة على ماصة أحد الطلاب وعليه المصحف الشريف فقد كان بإجماع الطلاب بحاجة إلى دروس في الأدب قبل أن يُعطَى الحق في تدريس كتاب الله! هناك ما يسمى بالمنهج المختفي أو اللامباشر وهو خطير! لأنه ومن خلاله تتم تسريب مفاهيم وتصورات وسلوكيات هي خارجة عن مراد وتحكم التربويين! أما في التعليم العالي – والطبي تحديداً- فهناك الكثير من الأمثلة التي تناظر ما سبق ذكره،وما زلت مع كثير من الغيورين أدعو إلى إعادة تأهيل الأطباء الأكاديميين من الناحية التعليمية! فإني أزعم أن عدداً كبيراً من أساتذة كليات الطب ما زالوا يجهلون مباديء التعليم والتعلم! ولا أرى أسوة بجامعات عالمية عديدة أي توجه يلزم أساتذة كليات الطب حداً أدنى من التأهيل التربوي مضافاً إليه تدريب سنوي مستمر للتأكد من جودة التعليم الذي يقدمه هذا الأستاذ! وتبعاً لذلك فما زال المنهج المختفي اللامباشر يعبث بالتكوين العلمي الأكاديمي لأبنائنا وبناتنا!
وليس الأمر هذا أكثر سوءاً لمرحلة ما بعد التخرج في برامج التدريب التي تنعقد في مختلف المستشفيات والقطاعات الصحية، فمعظم المشرفين على هذه البرامج ذوو علم سطحي بالتدريب وآلياته، ولا يعدو دورهم للأسف غيرالدور الإداري البحت عمن حضر ومن غاب! وقد تكون الرغبة والإرادة في التحسين موجودة، ولكن لا بد من معرفة أمور تفصيلية مهمة تسهم في تدريب وتخريج أطباء سعوديين على قدر عال من الكفاءة والتمكن؛ فاللقاء الطبي الصباحي هو أقوى وأكثر أوقات التدريب فعالية، ولكننا نجد أنه قد سرق بالروتين والسلبية في أغلب المستشفيات، ولا تسل عن الجولات التفقدية السريرية وكيف يجب أن تنعقد، والتدريب في العيادات الخارجية أمر شبه مغيب عن أجندة الأطباء المدربين والمتدربين!
والغريب الذي أراه؛ السعي الحثيث لكثير من القطاعات والمستشفيات والكليات في الحصول على ورقة اعتماد مهني أو أكاديمي، هي في نهاية المشوار لا تعدو أن تكون ورقة ولا تعلم ما إن كانت الأوراق التي تعد لهذا الاعتماد تعكس حقيقة الواقع العملي اليومي أم أنه الصراع الدائم عندنا بين الصورة والحقيقة فالأوراق في جهة والواقع في جهة أخرى! عموماً -هذا ولا شك غريب- ولكن الأغرب ألا أحد يتكلم أو يذكر أو حتى يفكر في آليات للتحقق من جودة وكفاءة التعليم والتدريب، ولعلي أناقش في مقال آخر الخلط الحاصل عند بعض كبار المسؤولين حينما يفكرون في التعليم والتدريب في قطاعاتهم، فيغفلونه عمداً بحجة أن المهم هو مصلحة المريض وليس الالتفات إلى أمور ثانوية كهذه! وما عرف هؤلاء أن ارتباط جودة وكفاءة التعليم والتدريب الطبي بمصلحة المريض هو مبدأ وسنة عالمية ثابتة، أقرت ببحوث ودراسات عديدة، وهو منهج تسلكه القطاعات والمستشفيات والجامعات اليقظة في أنحاء المعمورة!
هل تبحر السفينة لمجرد الرغبة في الإبحار؟ أم لابد من عمل دقيق سليم خبير حتى تتم عملية الإبحار بسلامة؟ وإلا غرقت السفينة أو ضلت الطريق أو مكثت تبحر حول نفسها؟ وما أكثر الذين يدورون حول أنفسهم وذواتهم! أم هل تطير الطائرة وأنت تصفق بجانبها؟ إننا لا نفهم هذه القاعدة العلمية الاجتماعية على بساطتها! إن سر النجاح في أي عمل هو الإخلاص والصواب!