أفكار المثقف المتسمة بسعة الأفق، تمثل خطراً حقيقياً على الأفكار المنغلقة والمظلمة التي تتموضع في دائرة واحدة هي محاولة عزل المجتمع عن الواقع، باستثمار توجهاته الدينية للتحكم به كدمية، وخاصة أن العمل الفكري للمثقف-بطبيعة الحال- يرتكز على صناعة ونشر ونقل الفكر

تهمة تخوين المثقفين ليست بجديدة، بل هي من الأمور المعتادة منذ عقود كجزء من نسق ثقافي يمتد لقرون في الثقافة العربية، ويتمثل في التفسيق والاتهام، غير أن الأهداف المرتجاة من الاعتماد على تخوين المثقف تتمحور حول كونه أقصر الطرق لإقصائه والنيل منه. فالاتهام بالخيانة والعمالة هو محاولة للحد من الدور الذي يقوم به المثقف في نقد الواقع المأزوم، وزعزعة الخطاب الأيديولوجي الذي أعمى بصر وبصيرة المجتمع لعقود طويلة، إلى الدرجة التي اعتبرت فيها كل مفردات هذا الخطاب حقيقة مطلقة وحاسمة ونهائية.. بينما الحقيقة أن ليست سوى كلمات تنطلق من ظاهرة صوتية عامة لا أكثر!
يستغل أصحاب الخطابات (الديماغوجية) الحساسية العاطفية لتوجيه ضرباتهم نحو الهدف، والهدف هنا هو المجتمع الذي تحركه العاطفة الدينية تحديداً، للتحرك في حملة (وعظ مضاد) في كل فترة تسمح بها الظروف، وذلك في محاولة لاستعادة دور مفقود أو شهرة غائبة أو مريدين وأتباع غفلوا عن نجومهم، فالمشهد الوعظي الاجتماعي يوحي بأن الرموز والقيادات تحظى بالدعم الاجتماعي الكافي الذي يخولها لإقصاء الفكر المختلف من خلال التُّهم، والتي غالبا ما توجه كرسالة للمجتمع، لكنها تحمل بين طياتها استعداءً للسلطة السياسية ضد المثقف، وهذا الأسلوب ليس بجديد على الواقع الثقافي العربي، الهدف الحد من تأثيره الإيجابي في المجتمع بتصويره زيفاً بأنه العميل والمتآمر والمنفذ لمخططات خارجية، وهذه الأمور كافية لأن تضعه موضع الريبة الاجتماعية ولكنها غير كافية لأن تكون حقيقة بحد ذاتها.
وأفكار المثقف المتسمة بسعة الأفق، تمثل خطراً حقيقياً على الأفكار المنغلقة والمظلمة التي تتموضع في دائرة واحدة هي محاولة عزل المجتمع عن الواقع، باستثمار توجهاته الدينية للتحكم به كدمية، وخاصة أن العمل الفكري للمثقف-بطبيعة الحال- يرتكز على صناعة ونشر ونقل الفكر، والأفكار هي المادة الخام التي يعتمد عليها المثقف ويناقشها، إذ لا يعتمد على سلاح، ولا على صورة خادعة، وإنما على فكرة.. قد تصيب وقد تخطئ وقد تتولد منها فكرة أخرى تنقضها وتخالفها.
ومن المهم الإشارة إلى فكرة قد يكون نصيبها الغياب أحياناً، وهي أن (الوعي الاجتماعي) الذي يحاول أن يثيره المثقفون، إنما يهدد برفض المجتمع لوهم القداسة المشاع، وهذا ما يمثل تهديداً للمصالح الذاتية لبعض الطمحوين للوصول سريعاً عبر سلّم الدين والتدين الأيدولوجي، مما يجعل الأمر أشبه بخطر متكرر عليهم، مما يدعو بالتالي إلى الاعتماد على التخوين والاتهام بشكل متكرر من أجل ترسيخ الفكرة المراد ترسيخها في المجتمع وهي: الوصاية.
فالوصاية الفكرية سلطة تحاول ألا تسمح لأحد بالتفكير خارج سيطرتها، ولهذا نجد الكثير من رموز الخطاب الديني ينصّبون أنفسهم حراساً على العقول، منطلقين من مواقعهم (الدينية) التي اعتقدوا أنها تخولهم لأن يكونوا أوصياء على الناس، على الرغم أنه من حق الإنسان أن يعبر عن رأيه وعن فكره، لكن ليس من حقه أن يختزل الحقيقة بشخصه أو بفكره، وليس من حقه أن يجرّم الآخرين لأنهم لا يذعنون لفكره، فمن يقرأ التاريخ يرى أن الإقصاء أسهم في ترسيخ أفكار التنوير وزعزعة الوصاية التي رفضها سيجد المجتمع نفسه في يوم بأنه يمقتها ويرفضها لأنها خطر حقيقي تؤدي في يوم ما إلى تشريع القتل والتدمير، وهو أمر شبيه بما عاشته أوروربا في عصور ظلامها الوسطى، حيث كانت ثقافة تقديس رجل الدين شائعة بالقدر نفسه الذي شاعت فيه محاكم التفتيش، التي كانت مهمتها التفتيش في الضمائر وإسقاط التهم على المخالفين، وأكثر من عانى ذلك هم مسلمو الأندلس الذين وقعوا تحت وطأة ظلم هذه المحاكم وحرائقها التي أكلت أبدانهم زمن التطرف المسيحي آنذاك، وحقيقة هذه المحاكم أنها لا تخرج عن كونها مشنقة يعلَّق عليها الفكر المختلف بسبب كونه غير منتم للفكر السائد، والذي يتسم بأخذ كل ما يقذف إليه دون مناقشة، باعتبار أنها حقائق لا يشوبها الشك.
ولو عدنا لخطابات التخوين في ثقافتنا المعاصرة لوجدنا أنها تعتمد على أمرين اثنين: إقحام الدين والسياسة ومحاولة الإمساك بهما لجعلهما بمثابة السيف المرفوع على الرقاب، وتوظيف اللغة العاطفية للتأثير على الجماهير بجعلها تحوي على مفردات حادة وهجومية هادفة لأن تكون بمثابة ضربة قاضية! وتستخدم تهم التخوين هذه في إطار التوظيف الأيديولوجي، ضد الفكر الحر المنتشر اليوم على مساحة من ثقافتنا المحلية، في ظل محاولات الفكر الوصائي تطويقه والحجر عليه وغلق كل الطرق المؤدية إليه، واستغلال الأزمات والقضايا التي تطرأ من أجل إثبات وجود ونفي آخر، إثبات وجود الفكر التقليدي ونفي وجود الفكر الحر، بعيداً عن الحوار أو حتى الجدل، مما يعود على المجتمع أخيراً بفقدان الثقة بين أبنائه وشيوع مظاهر التشدد من خلال تهييج مشاعر الرأي العام، بما يشبه التعبئة والتجييش ضد المثقفين، وباتهمامهم بـ(اللاوطنية) تارة و بـ(اللادينية) تارة أخرى، لا سيما أن المثقف لا يعتمد على تزييف الواقع إنما يحاول الاعتماد على وصفه ونقله للتنبه إلى نقاط الضعف والقوة، بينما يعتمد بعض الوعاظ على غرس مفاهيم غير إنسانية ولا وطنية، وقبل ذلك هي ليست من الدين في شيء، لكن الأمر الجدير بالانتباه إليه هو أن لمثل التهم مدة صلاحية، تنتهي بانتهاء فورتها، وإن تمت إعادة إنتاجها بين فترة وأخرى، إلا أنها-على مرّ التاريخ- ذات أهداف غير إنسانية لكن هدفها الرئيس هو درء الخطر المحيط بالمصالح الذاتية المتمثل في الفكر الحر، الذي ينتشر تأثيره من خلال الوعي الاجتماعي بعد كل محاولة لإنهائه.. وكأنه طائر الفينيق!