يُسهم الإصلاح الذي يعزز مؤسسات الدولة واستقلالها وفعاليتها في الاستقرار، وتحصين المجتمع ضد دعاة الفوضى والاضطرابات، خاصة إذا نجح في إشراك المواطن في تعزيز بناء مؤسسات الدولة بدلاً من هدمها

أحسنت اللجنة المنظمة لمهرجان الجنادرية هذا العام باختيارها موضوع الإصلاح وبناء الدولة الحديثة كأحد المحاور الرئيسة في برنامجها الثقافي، وهو توقيت مناسب تماماً لما يدور في الساحة العربية من أحداث تستوجب الوقوف عند هذه الإشكالية. وقد أحسنت اللجنة الظن عندما طلبت مني أن أشارك في هذا المحور. والموضوع ليس جديداً على الجنادرية، فقد طلبت مني اللجنة المنظمة في عام 2003 أيضاً المشاركة في محور عن إصلاح البيت العربي، وهو مؤشر آخر على بُعد نظر القائمين على البرنامج الثقافي للجنادرية، مدركين منذ ثمانية أعوام أهمية الإصلاح في العالم العربي، قبل أحداث هذا العام التي جعلته ضرورة ملحة.
وفيما أظن عندما اختارت لجنة الجنادرية محور هذا العام، لم تكن الاحتجاجات العربية قد بدأت، ومع ذلك رأت اللجنة الحاجة لمناقشة الإصلاح وعلاقته ببناء، أو إعادة بناء، الدولة العربية الحديثة.
وقد أظهرت حركات الاحتجاج في تونس ومصر وغيرهما ضعف مؤسسات الدولة، وربما كان هذا الضعف، أكثر من أي شيء آخر، مسؤولاً عن عجزها عن إدارة الإصلاح وتهاوي هذه الأنظمة تحت وطأة حركات غير منظمة. ويحظى الفساد والمحسوبية والواسطة والاستبداد والديكتاتورية بجل اهتمام الإعلام والمواطن العادي، ولكن هذه مجرد أعراض لمرض داخلي هيكلي هو ضعف مؤسسات الدولة وتبعيتها.
ولو استعرضنا الدول العربية لوجدنا نوعين من الدول، الأول الدول التي كانت لديها تاريخياً مؤسسات قوية للدولة ولكنها ضعفت بمرور الوقت لأسباب عديدة منها:
- في الدول العربية التي تم الاستيلاء على الحكم فيها عن طريق انقلابات عسكرية، قامت الحكومات العسكرية بحل المؤسسات القائمة أو إضعافها أوتجييرها لصالح الحكم العسكري، ملغية بذلك استقلاليتها وما تتطلبه من فصل للسلطات، ودور السلطات المختلفة في المتابعة والرقابة أو ما يسمى checks and balances. ووصل هذا التهميش في حالات مثل ليبيا، إلى وضع كاريكاتيري، حين قام النظام الليبي بطريقة منظمة بتفكيك مؤسسات الدولة وتحويلها إلى تشكيلات هلامية، ومنع قيام مؤسسات مستقلة للمجتمع المدني.
- لم يكن إضعاف مؤسسات الدولة مقصوداً في بعض الأحيان، بل كان نتيجة اجتهادات خاطئة، ففي مصر وسورية وغيرهما من الدول التي تبنت النهج الاشتراكي، أدى تأميم القطاعات الإنتاجية إلى زيادة أعباء الدولة بوضعها مكان صاحب العمل أو المزرعة، دون أن تكون لديها الأدوات الضرورية للقيام بذلك الدور، وانتشر الفساد وسوء الإدارة، وتدهورت القطاعات المؤممة وفقدت تنافسيتها.
- في الدول العربية التي نالت استقلالها من الاستعمار الأجنبي، انسحبت مع الاستعمار مؤسسات الدولة التي بناها، وأبرز مثال لذلك الجزائر، أو تخلصت حكومات الاستقلال فيها مما اعتبرته بقايا الاستعمار الأجنبي، مثل المجالس النيايبة المنتخبة والمؤسسات الرقابية المستقلة، وأبرز أمثلة لذلك في تونس والسودان وسورية والعراق.
وفي المقابل نجد النوع الثاني من الدول العربية الذي بدأ في بناء مؤسسات الدولة الحديثة متأخراً، ولكن هذه المؤسسات ما زالت في طور التكوين وتعاني من درجات مختلفة من الضعف. وفي دول مجلس التعاون نجد نموذجاً فريداً، فلم يسبق لهذه الدول تجربة في وجود مؤسسات حقيقية للدولة قبل فترة النفط، وبدأت بناء مؤسساتها من الصفر، ومع أنها استطاعت تحقيق مستويات لا بأس بها من أجهزة الدولة الحديثة، إلا أن ذلك تم بدرجات متفاوتة داخل الدولة وبين دولة وأخرى.
ويرى البعض أن الحديث عن الإصلاح في سياق دول مجلس التعاون غير دقيق، لأن هذه الدول لم تستكمل بناء مؤسساتها بعد، ولم تنحرف هذه المؤسسات عن مساراتها المرسومة لها لكي نتحدث عن إصلاحها وإعادتها إلى الجادة المستقيمة. ولا يبدو أن القائمين على مهرجان الجنادرية يشاركون في هذا التحسس من استخدام عبارة الإصلاح، واستخدموها في برنامج هذا العام وفي أعوام أخرى كما أسلفتُ.
ولعل القارئ مثلي ينظر إلى عملية الإصلاح، بصرف النظر عن المصطلح أو العبارة التي نستخدمها، كجزء من عملية التقويم الطبيعية التي ينبغي أن تتم في كل جهد بشري، ووفقاً لذلك تتم المراجعة والمتابعة والتقويم والإصلاح بشكل مستمر، بل إن عملية الإصلاح على هذا النحو شرط ومقياس ضروري لنجاح أي مشروع، اقتصادياً كان أو سياسياً.
وإذا اطمأننا إذن إلى أن الإصلاح، كالمتابعة والتقويم، جزء طبيعي من العملية السياسية والاقتصادية، فما هي الأبعاد الرئيسية للإصلاح التي نعتقد أنها تكتسب أولوية خاصة في سياق المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص؟ سيكون تحديد هذه الأبعاد لبّ مداخلتي في البرنامج الثقافي لمهرجان الجنادرية مساء يوم الأحد القادم (17 أبريل 2011م، 13 جمادى الأولى 1432هـ).
وإحدى الأفكار التي أعتزم طرحها هو أن الإصلاح الذي يهدف إلى تعزيز مؤسسات الدولة واستقلالها وفعاليتها يُسهم في الاستقرار، ويحصن المجتمع ضد دعاة الفوضى والاضطرابات، خاصة إذا نجح هذا الإصلاح في إشراك المواطن في تعزيز بناء مؤسسات الدولة بدلاً من العمل ضدها. ذلك أن تعزيز مؤسسات الدولة يجعل من الممكن تصحيح الأخطاء ومحاربة الفساد وسوء الإدارة والمحسوبية والواسطة، التي لا تترعرع إلا في ظل الضبابية والضعف المؤسسي.
وآمل أن أعود إلى هذا الموضوع بعد الجنادرية، معلقاً عليه في ضوء النقاشات الحية التي أتوقعها خلال مهرجان هذا العام.