ظل مشروع توطين الوظائف 'مساحة مناورة' يتبارى فيها واضعو الأنظمة مع أصحاب العمل في القطاع الخاص دون تحقيق فوز حقيقي.. وكان المتضرر من هذه 'المراوغة' هو الشركات الصغيرة

الوافد في الوظائف المتاحة في القطاعين العام والخاص.. وهي مشروع وطني لم يكتب له النجاح للأسف – طوال السنوات الماضية – بسبب مجموعة من العوامل والعناصر المتداخلة والمترابطة، بعضها يتعلق بكفاءة التعليم ومستوى خريجيه، وبعضها يرجع إلى العادات المتوارثة وموقفها من بعض الأعمال وعلاقتها بمكانة الفرد في نظر المجتمع وبعضها نتيجة لتربية سلوكية لم تزرع في الشباب روح الالتزام والمسؤولية وتقديم واجبات العمل على مغريات الحياة الاجتماعية، وبعضها تقف وراءه مصالح القطاع الخاص وموقفه من الموظف السعودي الأقل طاعة من زميله الوافد والأقل صبراً وتحملاً لمتطلبات العمل والأكثر تكلفة وربما الأقل إنتاجية – مقارنة بساعات العمل.
وقد حاولت الجهات الرسمية المشرفة على هذا المشروع الحيوي أن تفرضه على القطاع الخاص بأساليب ووسائل متعددة.. مرة بمحاصرة القطاع الخاص بمنع تأشيرات الاستقدام، ومرة بفرض نسبة من الجنسية السعودية على دفاتر الشركات دون مطابقتها على أرض الواقع.. وقد تفاعل القطاع الخاص مع أسلوب الفرض وابتكر أساليب للالتفاف حول الشروط وتفنن في الأعذار وتضخيم عيوب الموظف المواطن حتى أصبحت موضوعا انشغلت به وسائل الإعلام وصرفها عن لب الموضوع.. وكانت النتيجة عمليات توظيف شكلية تبقي العنصر الوطني على هامش الوظيفة المنتجة.. أي أن بعض الشركات اكتفت بالحصول على نسبة السعودة إلى إجمالي قوتها البشرية دون النظر إلى مواقعهم وحضورهم في العملية الإنتاجية.. وظل مشروع توطين الوظائف مساحة مناورة يتبارى فيها واضعو الأنظمة من الأجهزة الحكومية مع أصحاب العمل في القطاع الخاص دون تحقيق فوز حقيقي للطرفين.. وكان المتضرر من هذه المراوغة هو الشركات الصغيرة والمؤسسات الفردية التي لا تملك هامشا للمناورة، فليس لديها وظائف هامشية تكدس فيها الشباب السعودي الباحث عن العمل قبل أن يتلقى ما يحتاجه من تدريب.. وظلت الشركات الكبرى – لأسباب كثيرة – في منجاة من ملاحقة الرقابة على السعودة لأنها استطاعت أن توفر النسبة السحرية (10%) وهي نسبة يمكن للشركات الكبرى أن توفرها ما بين حراس الأبواب الخارجية وبين من يصب القهوة والشاي.
وخير مثال على قدرة الشركات الكبرى على الالتفاف حول السعودة ما ورد في المقابلة الصحفية التي أجراها الزميل محمد الحسيني في صحيفة الرياض يوم الإثنين 14 مارس 2011 مع المدير التنفيذي للموارد البشرية في شركة سعودي أوجيه، فقد كشفت المقابلة قدرة الشركات والمؤسسات الكبرى على التعامل مع الأنظمة والالتفاف حولها دون أن تخطو في اتجاه تنفيذ أهداف مشروع السعودة. تحدث المدير التنفيذي عن اهتمام الشركة بالتدريب وإعطاء الفرص للشباب السعودي. وبسط الكلام في هذا الجانب حتى ليكاد من لا يعرف سوق العمل ويعرف الحقائق على أرض الواقع يظن أن هذه الشركة وحدها كفيلة بقيادة مشروع السعودة إلى ضفاف النجاح.. لكن الأرقام والواقع لا يؤكدان هذا الحديث الجميل، فالأرقام التي ذكرها تشير إلى أن السعوديين في الشركة يبلغ عددهم 4895 من بين ما يقرب من 60000 أي أنهم في حدود 8% ومن بين هؤلاء 20% يقفون على أبواب الحراسات الأمنية (980 شاباً) وإذا أضيف لهم المعقبون والسائقون وموظفو الاستقبال والتوديع فسنكتشف المساحة المعطاة للشباب السعودي وسنرى الفرص المتاحة للمهندسين والمحاسبين والمسوقين والمساحين ومساعدي المهندس والعمال المهرة السعوديين.
أما حديث العلاقات العامة الذي تفضل به المدير التنفيذي حول المسؤولية الاجتماعية واستراتيجية توظيف الشباب السعودي في قطاع المقاولات والصيانة وتدريب الآلاف لدخول سوق العمل، فهو كلام يحتاج إلى برهان عملي يعيد الثقة بأن الشركة ومثيلاتها صادقة في توجهها نحو إحلال الأيدي الوطنية مكان الأيدي الوافدة مهما كانت جنسيتها.. ونحن لا نريد أن نظلم سعودي أوجيه فهي ليست وحدها في هذا لكننا أيضاً لا نقبل أن ندلس على الحقائق ونخدع أنفسنا وأبناءنا وبناتنا بالسكوت على كلام لا دليل عليه – بل الشواهد وكلام الناس يخالفه -.
النموذج الوارد في هذا المقال ليس هو المقصود بل الهدف الحقيقي هو مواجهة مسألة توظيف الأيدي الوطنية بقدر من الوضوح والمصارحة بين الجهات التنظيمية والقطاع الخاص والبحث عن القواسم المشتركة التي تخدم أهداف الطرفين وقابلة للتطبيق.. وتجارب الفترة الماضية تبرهن على أن سن القوانين بمعزل عن الواقع لن يؤدي إلى نتائج عملية، فكلما صدر تنظيم جديد – مهما كان دقيقاً – فالمستهدفون لديهم من الخبرة والطرق ما يمكنهم من الالتفاف عليه وتفريغه من مضمونه.. ومن هذا يتضح أن أي مشروع سعودة يراد له النجاح لا بد أن يشترك في وضع تفاصيله الجهة التي تملك قدرة التنفيذ أي الجهة التي تخلق وظائف وتستوعب طالبي العمل. وهو يعني أن أسلوب الفرض وتقدير النسب الواجب الالتزام بها دون معرفة الواقع لن يؤدي إلى نجاح هذا المشروع الوطني الذي يمس كل أسرة بغض النظر عن وضعها المالي. وليس المطلوب التوقف عن تشجيع القطاع الخاص على استيعاب القوى الوطنية العاملة حتى تكتمل دائرة التوافق بين واضع الأنظمة والمشغل بل يمكن متابعة إلزام – مؤقتا- الشركات الكبرى التي تستطيع استيعاب الآلاف والتعامل بمرونة مع المنشآت الوطنية الصغيرة حتى لا تفقد القدرة على المنافسة في سوق مفتوح أمام منتجات الشرق والغرب خاصة أن المؤسسات الصغيرة لن تستطيع تحقيق الهدف حتى وإن تمت سعودتها بالكامل.