وإنسانية محمد صادق دياب هي التي تجذبني إليه بدءًا، جلستُ حين زرته تلميذاً حوله.
وإنسانية محمد صادق دياب هي التي تجذبني إليه بدءًا، جلستُ حين زرته تلميذاً حوله، أتأمل في روحه البيضاء هذه التي تدفقت مع إنسانٍ عشق الفن والثقافة والأدب، وكان منبعاً زاخراً لكل ما هو غالٍ ونفيس، ليكون مع آخرين من أهم المؤرخين للفن والحياة الاجتماعية في السعودية.. أعلم جيداً حين أتيته أنني سأنهل من نبعٍ لا ينضب. جلستُ مطمئناً متعلماً مستفيداً من سلوكه وأخلاقه، وابتسامته الصافية، وعلمه الغزير، وأدبه الجم، وفوق هذا المعلومات التي يتيحها لنا على شكل قصص أو مقولاتٍ غنية ومفيدة، تنساب من شفتيه رغم المرض الشديد، شفاه الله!
عشق جدة، حتى إنك إذا سمعتَ حديثه تشعر أن كل صور جدة العظيمة تتمخطر أمامك كفيلم سينمائي عالي الجودة والإبهار. أهداني روايته الأولى: مقام حجاز وهي التي تتناول مذبحة تعرض لها دبلوماسيون غربيون في جدة قبل 150 عاماً، وهي: رواية ترصد الفتنة التي حدثت في مدينة جدة عام 1858 خلال العهد العثماني، وذهب ضحيتها 21 قتيلاً من الدبلوماسيين والتجار الغربيين، من بينهم القنصل الإنجليزي، والقنصل الفرنسي وزوجته، وترتب عليها إعدام عدد من أهالي جدة من بينهم محتسب المدينة، ونفي عدد كبير من الوجهاء والمسؤولين، وهي الحادثة التي ظلت عبر السنين أسيرة بعض المخطوطات والإشارات السريعة العابرة في بعض الكتب التي تناولت تاريخ المدينة.
كان معي الدكتور رشيد خيون في عيادتنا لأبي غنوة، فوجدنا حبيبنا يوم جاء الحديث عن الرواية ينساب في حديثه عن تاريخ جدة وكأن جدة تخرجه من فراش المرض، وتقيل العثرة، وتزيل الألم. ميزة محمد صادق دياب في روحه العظيمة... في عمقه الإنساني، في هذه القوة التواقة نحو الإبحار في أعماق الآخرين، وفي التفاني معهم، وبالتأمل في معادنهم النفيسة، روحه كأنها قصر مليء بكل ما هو ثمين، فهو الفنان، والإنسان والأديب، قد تجد أكثر منه ثقافة أو أغزر منه إنتاجاً للرواية، أو أكثر منه حديثاً وشهادات، لكنه يتميز بحق بإنسانيته الصافية، وهذا البعد الروحي الذي يحيط به.. تجلس معه وكأنك أمام مثال شامخ، تمثال مطرز بالإبداع، بالفن بالأدب، بالموسيقى، بتاريخ الطرب، بتاريخ جدة الذي انطمست ملامحه أو أوشكت مع الغرق والبنايات الجديدة وبقايا الفيضانات وقذارة أيادي الفاسدين!
وصل محمد صادق دياب إلى هدف إنساني رفيع... حب الناس... سخاء الروح... جمال الابتسامة... نقاء العلم، وهكذا هي أرواح العظماء، إنهم يعرفون ما يحبون ومن يحبون، ولا يبالون بما يكرهون، ومن يكرهون!
ولا عجب أليس هو من قال حينما كنا نلعب الكرة صغارا كنا نعتبر الهدف الأخير الذي يأتي قبل حلول الظلام بعشرة أهداف.. من الناس من لهم نفس سمات ذلك الهدف، فهم يحتلون المقدمة في نفوسنا رغم فارق الوصول؟!
يا أبا غنوة... لقد تعلمت منك في دقائق ما عجزتْ بعض الكتب أن تعلمني إياه في سنين!