المشكلة الرئيسة تكمن في مفاهيم الخلط في الصلاحيات، فمفهوم الإعلام له أصول ورسالة بخلاف الثقافة، فالقائمون على الثقافة مختلفون عن المشتغلين بالإعلام وإن كان بينهم عموم إلا أن هناك فوارق يبنهم
هذا السؤال يحمل الهمَّ الثقافي لجميع المثقفين السعوديين وهو في ذات الوقت ما وجهه الإعلامي الأستاذ داوود الشريان إلى وزيرالإعلام حيث أجابه قائلاً: (إن الثقافة مظلومة وكلما كانت لها استقلاليتها كلما كان لها نصيب أكبر من الرعاية) هذه الإجابة الواعية جعلتني أتساءل لماذا تستقل الثقافة؟ وهل للثقافة بيت أصلاً حتى تستقل فيه؟ خصوصاً ونحن في زمن أصبحت فيه الثقافة تحمل معارف متعددة ومختلفة فهي ليست محصورة في نطاق معين بل هي ظاهرة واسعة التحقق في عالمنا اليوم كونها تساهم في صناعة الرأي العام على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، إذن ما هو الداعي إلى وجود بيت خاص بالثقافة؟
بالرغم من هذا التداخل المعرفي للثقافة على المستوى النظري في كل مجالات الحياة إلا أنه على المستوى العملي والواقعي لابد للثقافة من بيت خاص بها.. نعم، وإن كانت قد استقرت بالأمس القريب تحت مسمى وزارة الثقافة والإعلام بعد ما كانت مشتتة وموزعة تحط رحالها بين عدة جهات وأجهزة، لكنني أتحدث اليوم عن استقلالية الثقافة في منظومتنا المحلية كعمل مؤسسي له مرفقه الخاص والمستقل حاله حال بقية الهيئات والمؤسسات المستقلة الأخرى كالتعليم والصحة والقضاء لتكون وزارة أو هيئة متفرغة للشأن الثقافي، ليكون السؤال متى تستقل وزارة الثقافة؟ السؤال بحد ذاته إشكالي؛ لأنه يقدم تصوراً مبدئياً عن وجود حقيقي لوزارة الثقافة، في حين أن الواقع يقدم حقيقة أخرى، تتمثل مناصفة بين وزارتين، ولكن السؤال الحقيقي ما هي أهمية أن تكون مستقلة؟
للإجابة عن هذا التساؤل علينا قراءة المشهد الثقافي السعودي الراهن، فهناك بشائر لحراك ثقافي وتقدم ملحوظ على مستوى العطاء والإنتاج الثقافي فلدينا مؤسسات ثقافية عديدة ونواد أدبية في مختلف المناطق دعمها خادم الحرمين الشريفين بمبلغ 10ملايين ريال لكل ناد وملتقيات ثقافية ومعارض كتاب ومجلات فكرية وعلمية رائدة ، ولكن فيما عدا النخبة المثقفة لا يزال مستوى تفاعل المواطن مع الحراك الثقافي والاهتمام الفكري المعرفي يحتاج إلى دراسة وتأمل، فالتناول السطحي والجانبي هو السمة الغالبة فيه، خصوصاً ونحن في عصر أصبح فيه الإنسان أكثر انشداداً إلى الدعاية والإعلام وإلى الأحداث الساخنة. ولذلك نحن بحاجة إلى اعتماد وسائل تربوية وبرامج توجيهية لتربية الجيل الجديد على الاهتمام بالثقافة والمعرفة كما نحتاج لرصد الحالة الثقافية في المجتمع ومتابعة مستوياتها ومعالجة أسباب تأخرها، ولست بحاجة إلى تكرار ما نعرفه عن حالة التخلف التي يعيشها الإنسان العربي فمظاهرها وانعكاساتها أبلغ تعبيراً من أي كلام وعلاج، وذلك لا يأتي إلا من خلال رسم استراتيجية شاملة للعمل الثقافي.
إن التطلع إلى إنشاء هيئة خاصة بالثقافة بالمملكة هوأمرطبيعي فمنظومتنا المحلية لها استقلالية ثقافية ليكون هذا التوجه فيه تصحيح لبعض الأمور، فقد جرت العادة على اتهام الآخرين لنا بأننا دولة نفطية فقط، أليس ذلك فيه تسطيح لثقافتنا! مع أننا نملك الطاقات والإمكانات.
إنني أتساءل هل تطور المسرح السعودي في جمعية الثقافة والفنون عمل احترافي ؟ أم أنه مازال مبادرات فردية؟ ماذا عن الملحقيات الثقافية؟ ما هي برامجها؟ ماذا لو كانت مرجعيتها وزارة الثقافة؟ ثم ماذا عن التراث وهل هناك متاحف أثرية سياحية كالتي نشاهدها سنوياً في الجنادرية تعكس الوجه الثقافي والحضاري للمملكة؟
إن المشكلة الرئيسة تكمن في مفاهيم الخلط في الصلاحيات، فمفهوم الإعلام له أصول ورسالة بخلاف الثقافة، فالقائمون على الثقافة مختلفون عن المشتغلين بالإعلام وإن كان بينهم عموم إلا أن هناك فوارق يبنهم، العمل الإعلامي عمل ديناميكي وسريع وفيه متابعة للأحداث وكتابة لتقارير يومية حتى قبل وقوعها وتصوير و..إلخ بعكس العملية الثقافية فهي تتحرك في اتجاه أخر تماماً، هذه الثنائية فيها ازدواجية وتجعل العملية الإدارية فيها تصادم بشكل مباشر وغير مباشر فالجبهة مابين الإعلام والثقافة هي جبهة بين متناقضات فالإعلام مبني غالباً على التوجيه والثقافة مبنية على الفضاء المفتوح والجمع بينهما فيه تكلف غير مستساغ وهو مرهق حتى على المسؤول.
إن استقلالية القرار والتنفيذ تحمي المشروعات من الدخول في متاهات التنفيذ الإداري والبيروقراطي، والتشعب في الدوائر المسؤولة عن التنفيذ يرهق المشروع، واستقلالية الجهاز الثقافي ستساهم أيضا في خلق بنية ثقافية مدروسة وقائمة على خطط لجميع المشروعات الخاصة بالثقافة، فالوضع الثقافي في المملكة كان يمر بحالات من الجمود وقد ساهم في الخروج من هذه الحالات بعض الأنشطة الثقافية المختلفة، وعليه فإنه من الطبيعي أن نخرج بتصور للنهوض، فالمشكلة ليست في الأشخاص، المشكلة في تعدد المسؤوليات وتشعبها. أنا أؤمن بالتخصص ولهذا أرى أن استقلالية الجهاز الإداري ستساهم في زيادة الإنتاجية و في تقليص دوائر صنع القرار، إلى جانب ذلك هناك مشكلة نعاني منها وهي عدم وجود نظام خاص بالمشاريع، حيث يبقى الكثير منها مرتبطا بالأشخاص، وبذهابهم تذهب هذه المشاريع ولا تنفذ أو لا يستكمل تنفيذها، وفي هذا عرقلة لصورة التنمية الثقافية لدينا، ولهذا فمن الضروري أن ترتبط المشاريع بالمؤسسات التي ستقوم على تنفيذها.
المشروع الثقافي ليس مناقصة يتم عرضها على الشركات، بل هو فعل تنموي سمته الجودة والنوعية وهو بالضبط ما ستسعى وتؤكد عليه استقلالية الجهاز الثقافي.
إنني أتصورأن استقلالية الثقافة في حال إقرارها ستكون الواجهة الأولى والحقيقية للمملكة والتي تعكس الوجه الحضاري والثقافي.
إن أكثر منجزات الإنسان العلمية ومكاسبه الحضارية، كانت في بدايتها أحلاما، وآمالا وتطلعات، لكنها تحققت فيما بعد وأصبحت ظواهر حية ومألوفة، ومازلت أتذكر ما قاله معالي وزير الإعلام في ختام فعاليات معرض الكتاب لهذا العام عندما تمنى( أن تكون للثقافة وزارة مستقلة... وسأشارككم الرأي في حلمكم) ليبقى السؤال ولكن متى؟