إن التشكل المعرفي الحقوقي الممنهج لدينا هو تشكل بدائي عرفي، لا يخضع لراهنية الزمان ووعي المرحلة وشروط العصر، بل يتمدد من سلطة اللاوعي الذي يفرز من عتمته الرؤية المتخلفة للحقوق والإنسان

اقترح أحد المعلقين الكرام على مقالي عن نظام التقاعد المعتق اقتراحاً يستحق فوق الإشادة الاستفادة خاصة في مجال التعليم الذي يتطلب لراهنية اللحظة تحديث أنظمته باستمرار، فالنظام يجبرالمعلمة التي لا تجد في نفسها الكفاءة للتطور الاستمرار في وظيفتها لأن ما يستقطع من راتبها عند التقاعد المبكر مبلغ كبير يصيبها بالغبن، لذا رأيت أن تشاركوني بداية هذا الاقتراح، وطرحه أمام المسؤولين في وزارة الخدمة المدنية ومؤسسة التقاعد ومجلس الوزراء ومجلس الشورى، ولو أن الأخير لا يعول عليه كثيراً قياساً بإنتاجيته.
يرى القارئ الكريم أن أفضل حسبة للراتب التقاعدي كالآتي: جميع الزيادات التي يحصل عليها الموظف بعد أول مربوط (الراتب الأساسي) هي حق له وبعدها يتم تقسيم الراتب الأساسي على عدد سنوات خدمته ويأخذ منه بقدر ما خدم من سنوات.. مثال: شخص توظف براتب أساسي 4000 وبعد ثلاثين سنة أصبح راتبه 10000 أي أنه اكتسب 6000 زيادة، فهذه الزيادة تعطى له كاملة ومعها ناتج قسمة 4000 على40 مضروبا في عدد سنوات الخدمة التي خدمها (30) فيصبح راتبه 9000 ريال.
هذا الاقتراح- برأيي- يحسّن وضع المتقاعدين، ويعين على الحد من البطالة، ويساعد على تدوير الوظائف، وهو ما يناسب حركة الزمن التي دوما تتطلب التغيير والتدوير للقدرات والكفاءات.
أما مقالي المقصود بالعنوان فعن التعميم التأكيدي لوزارة التربية والتعليم رقم 32572758/20 وتاريخ 3/ 4 /1432هـ، الذي تود فيه إدارة شؤون الموظفين توضيح الأنظمة المعمول بها في حالة منح الإجازات الاعتيادية حسب قرار الاحتفاظ بالرصيد والذي يصدر بحق كل موظفة من خلال تعويضها عن إجازة (الوضع.. عدة الوفاة) والتي تتخلل الإجازة الصيفية، ففي حال عدم تمتع المعلمات والموظفات بالإجازة يتم تعويضها عن تلك الفترة مالياً، ويتم صرفها مع نهاية الخدمة.
وهو تعميم إلحاقي لتعميم سابق، يهدف لتوزيع بركات راتبين لكل مولود وُلد بالإجازة، جائزة تشريفية للموظفة الولود، هنا نتساءل والتساؤل أعتقد أنه مشروع للآن حسب ظني الذي أرجو ألا يكون سحيقاً أو بائداً، ما سبب إعطاء الموظفة التي وضعت مولودها في الإجازة شرهة؟ وما دواعي هذه المكرمة؟ وهل نلوم من تكثر الوضع لأجل الحصول على هذه المكرمة؟! فلو كان أبناء الموظفة سبعة مثلاً، وكان متوسط راتبها 8000 مضروبا في 2 مضروبا في 7 فإنها تأخذ مقابل هذه الولادات 112000، واحسب بذلك كل موظفة لديها أبناء وهم الغالبية طبعاً، واعمل الحسبة التقريبية ما بين أربعة أبناء وما فوق ولنتصور حجم المبالغ المصروفة بعدد الموظفات الولودات، بينما تصفية نهاية الخدمة للموظفة عادة لا تتجاوز مبلغاً زهيداً يقارب 30 ألفا، وهذا بلا شك تلاعب حقوقي إذ إن هذه الأموال المكافئة للمرأة الولود يفترض ضمها لحقوق المتقاعدين لا أن تبعثر على عدد ولادات الموظفات الولودات، خاصة أن الموظفة تتقاضى رواتبها عن السنة كاملة، فلماذا الشرهة عن كل مولود يولد بالإجازة إذن؟ أليس الأولى بهذه الأموال أن تعاد حساباتها للمتقاعدين فترسم خطة تتماشى وظروف الحياة في آننا، خاصة ونحن نعاني من البطالة، إنني إذ أستنكر هذا الإجراء الذي تعجز استراتيجيات التنظيم الحقوقي أن تجد له تفسيراً فضلا عن أحقية، فإنني أتساءل عن رؤية الزمان لهذه الوزارات، وما هي متطلباته في حق يُفرض كإجراء جزاء الصدفة، بل ربما يكون تحديده تكتيكاً دراماتيكياً من الموظفة نفسها، ما المانع مادامت ستجد حقاً مضاعفاً، وقس على ذلك إجازة عدة الوفاة كما جاء في التعميم، فالمعتدة في الإجازة تعامل كمعتدة بعد انتهاء عدتها مع بداية العام الدراسي، أو تعوض براتب أربعة أشهر وعشرا، لعمري إن من أقسم ببؤس الحماقة لهو شاعر فنان ولو عاش بيننا اليوم لربما أشرعنا قريحته ليضيف لها أبعاداً أكبر دلالة وأشد عمقاً عندما أطلق بيته:
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
وأنا أعياني هذا التعميم عن مراده، فالتذكير به يهدف للتأكيد بأن المرأة تظل وإن كانت موظفة هي قبل ذلك وبعده ذات للاستخدام وآلة إنتاج لبقاء النوع، إنها رسالة رغم تخلفها تأتي في وقت تعاني المدارس فيه من إجازات الأمومة التي سببت تعطيل المناهج، ومع ذلك يأتي هذا التعميم ليضيف تسيباً مالياً موهوباً بلا أدنى ثمن للعطاء الوظيفي واستحقاقات الوظيفة، طبعا الموظفة الولود في الإجازة مخيرة بين أن تأخذ الراتبين مع تقاعدها، أوتأخذ إجازة شهرين من العام الدراسي المقبل، هذا التخيير الواصل لدرجة التدليل يرسل رسالة سمجة مؤداها تكريس دور وحيد للمرأة كآلة إنتاج، لا أستغرب تكريس هذا الدور تماشياً مع الوعي السائد تجاه المرأة، لكني أرفضه إذا وصل لحدود العمل الوظيفة فمتطلبات الوظيفة يفترض ابتعادها عن التكريس النمطي المتشكل بواسطة الأعراف المتوارثة.
أنا هنا لا أرغب في مناقشة تكاثر النسل فهذا شأن شخصي، وإن كانت الدول المتحضرة حدت منه تلافيا للانفجار السكاني، لكني أتحدث عن وجهة نظر حقوقية للموظفة ذات خصوصية لا توجد في أي بلاد أخرى، فالدول المتقدمة تهب حق الولادة للموظفة لمرة واحدة مدفوعة الأجر أو لمرتين أو أكثر، مع مراعاته كحق طبيعي لا يعطل الوظائف ولا يربك حركية الحياة.
حقيقة؛ إن التشكل المعرفي الحقوقي الممنهج لدينا هو تشكل بدائي عرفي، لا يخضع لراهنية الزمان ووعي المرحلة وشروط العصر، بل يتمدد من سلطة اللاوعي الذي يفرز من عتمته الرؤية المتخلفة للحقوق والإنسان، وتتفشى فيه رائحة التمركز الذكوري السلطوي مقابل المرأة التابع، فحضور المرأة بمكوناته المعرفية ذات الخصوصية المتواترة للرؤية المنمذجة ككائن بيولوجي يطغى حتى على القرارات الوظيفية واستحقاقاتها، وللحقيقة من الصعوبة الفرار من نسق على هذا النحو العميق، لكننا في أشد الحاجة لعرضه ومحاججته عقلياً، والسؤال في محوره الرئيس يظل في ظل سيطرة فكرة الأنوثة المنفصلة عن الأنسنة سؤال يطرق على أبواب العتمة والفراغ.
لا ألوم الموظفة عندما تستمر بإجازات مرضية من بداية حملها إلى أن تضع، فباب التلاعب المسموح به هنا متأصل من أصل نظرة الرئيس الأصلي في الوزارة الرجل لها كوعاء للحمل والولادة، لا كإنسان يحمل هم إسهاماته في إنتاج المعرفة والعلم.
إنه نتاج هوس اللاوعي المسيطر بالتبعية المستورة خلف حجاب الشرهات المالية والإجازات غير المستحقة!