إن المنهج المقترح للدعاة والمحاورين أن يهتموا بشأن الدعوة والحوار دون أن يؤثر الحدث السياسي على سيرهم في هذا الطريق، ويميزوا بين مستوى الفعل الدعوي، وبين مستوى الفعل السياسي حتى تثمر الجهود ونقطف ثمار الحوار يانعاً ومنعكسا على السلم الاجتماعي

قلت مرة لأحد الدعاة الفضلاء والمهتمين بالحوار السني/ الشيعي في السعودية بأني أتحفظ على طريقة تعاطي بعض الدعاة مع قضية الحوار مع الشيعة، فإن بعض الدعاة يرسمون منهجاً جميلاً للحوار والتواصل، حتى إني أعرف بعض القضاة في المنطقة الشرقية لهم تواصل جميل مع الشيعة والحوار الحضاري والهادئ البعيد عن التكفير والتخوين، ولكن هذه الجهود كلها تنقض عند أي التهاب سياسي يطرأ في أي مكان في العالم الإسلامي والعربي، ففي الوقت الذي تبنى فيه الجهود التواصلية التي تقتضيها الحكمة في الدعوة، نقضي عليها مباشرة حين نصعد الخطاب ضد الشيعة في خطب الجمعة والمحاضرات، دون أن نفرق بين الحدث السياسي والحمولة العقدية للطائفة، فنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
في الحوارات التي تجري في بعض القنوات الفضائية المهتمة بهذا المجال نجد أن الأمر يتكرر بنفس الطريقة، فيختلط عند هؤلاء المحاورين بعدان: البعد الأول: الخلاف العقدي مع الشيعة والذي هو مجال حوار ودعوة وسجال، والبعد الثاني: بعد سياسي يتعلق بامتداد فكر الثورة الخمينية للعالم الإسلامي، فيختلط الأمر، فلا يدرى هل الموقف من هؤلاء لأجل موقفهم السياسي، أم لأجل خلافهم العقدي، فإن كان الموقف لأجل الخلاف العقدي فإقحام القضية السياسية هو تحميل لكل الطائفة الشيعية الذين لهم موقف ضد أي امتداد خارجي أو أجندة سياسية تبعية، وها نحن نجد بعض علماء الشيعة في هذا الوقت مثل الشيخ علي الأمين اللبناني، والسيد محمد بن علي الحسيني وغيرهما من الشيعة في السعودية يقفون موقفاً سلبيا من الثورة الإيرانية، بل ويصرحون برفضهم القاطع للتدخل في شؤون الدول الإسلامية أو تجنيد الأتباع داخل العالم الإسلامي لتمرير أجندات سياسية مغلفة بلبوس ديني عقدي.
إن أخطر شي في هذه القضية حين يلبس الداعية إهاب السياسي دون أن يكون في دور الفاعل السياسي، فيجعل الامتداد الخارجي وسيلة للهجوم على كل منتسب للطائفة الشيعية، ولا شك أن هذا الخطاب يؤثر في مسيرة الحوار، ويصيب بالشعور بالظلم، ويؤدي إلى احتقان نفسي، بل ويشعر بالتفاف الحبال على الحلوق، وإن من مقتضيات الحق والعدل ألا نحمل أي إنسان أخطاء الآخرين، وألا نعامل الإنسان بجريرة غيره، وأن ميزان القسطاس المستقيم يقتضي التفريق بين هذين المقامين في التعامل مع الخلاف العقدي بين السنة والشيعة.
إن مسألة الخيانة، وتمرير الأجندات الأجنبية هي قضية أمنية بامتياز، وهذه القضية التي تتعلق بالسيادة والأمن ومصالح الوطن العليا لا يميز فيها بين طائفة وأخرى، فكل من يعمل على تقويض وحدة الوطن، أو العبث بأمنه، أو تسهيل الاختراق الداخلي، أو إشعال فتيل الفتنة يعامل سياسيا وأمنيا بكل قوة وصرامة بعيداً عن عقيدته وانتماءاته، وها نحن نرى الجهات الأمنية في السعودية قد تعاملت مع فكر التفجير والتكفير بكل حزم بغض النظر عن انتمائهم إلى السنة أصالة، وهذا هو مقتضى العدل والحكمة.
إن هذا المسلك هو الذي يزيد من التماسك الاجتماعي، ويحقق الرضا الوطني، ويبعد الناس عن التظالم الذي هو من موجبات العقوبة حتى لو كان مع المخالفين في باب الاعتقاد، ولقد كان هذا السلوك هو سلوك نبوي، فقد تنزلت الآيات الكريمة عتابا للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة حين ظلم بيت من الأنصار يهودياً في المدينة فاتهموه بالسرقة، فتنزلت الآيات العظيمة في إنكار هذا الفعل فقال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتاناً وإثما مبينا)، وقد كان هذا هو مسلك علماء المسلمين وولاتهم عبر التاريخ الإسلامي حتى عاش في كنفهم حتى اليهود والنصارى بأمن وأمان، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين أرسله السلطان قلاوون لفكاك أسارى المسلمين من التتار، قالوا إن هناك نصارى لا نفكهم، فقال لهم: (بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا، لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة ..) الفتاوى 28/617، في صورة عظيمة تدل على العدل مع الجميع بلا تمييز عقدي أو طائفي.
إن عدم التفريق بين الرؤية السياسية التي تنطلق من القواعد الكلية ومسائل الاستصلاح حتى لو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض الحق في سبيل درء بعض المفاسد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وبين الرأي الشرعي الذي هو رأي مطلق ومجرد ينطلق من رؤية تفصيلية جزئية هو الذي يحدث هذه الربكة في طريقة التعاطي مع هذه المسائل، فيبلس الداعية جبة السياسي دون أن يكون في مقام الفاعل السياسي، فيقضي على مقاصده في الدعوة والإرشاد والهداية حين يسلم نفسه للأحداث السياسية التي تؤثر على مسيرته الدعوية والحوارية، ويقطع الصلات مع أناس قضى في وصلهم سنوات طويلة.
إن المنهج المقترح للدعاة والمحاورين أن يهتموا بشأن الدعوة والحوار دون أن يؤثر الحدث السياسي على سيرهم في هذا الطريق، ويميزوا بين مستوى الفعل الدعوي، وبين مستوى الفعل السياسي حتى تثمر الجهود ونقطف ثمار الحوار يانعاً ومنعكسا على السلم الاجتماعي بعيدا عن التوترات التي تصنعها الأحداث، فإن الطوائف باقية، والحوار مستمر، والأحداث السياسية تذهب أدراج الرياح، ولن يفني أي طرف الطرف الآخر!