هيمنة الفكر الاقتصادي على القرار السياسي أصبحت واقعاً دولياً، ولكنها أيضاً حالة مثلى وضرورة متأخرة. فالاقتصاد، كعلم اجتماعي، يهدف إلى توزيع موارد المجتمع على أفراده بعدالة. والدولة، كمجتمع سياسي، لا ينبغي لها أن تسعى لغير ذلك

الفكرة التي وقفت وراء تأسيس أول شراكة في التاريخ لم تكن سوى استخدام موارد مشتركة بهدف تحقيق عوائد أكبر مما يحققه الجهد الفرديّ والموارد المتفرقة. وسواءً كانت هذه الشركة زراعةً في حقل أو حرفةً في سوق فإن الإنسانية لم تنحرف كثيراً عن ذلك المسار الغريزي في تأسيس الشركات وعقد التحالفات. لقد بدأ الاقتصاد إذن رحلته مع الإنسان منذ تأسيس أول مجتمع في التاريخ بينما تأخرت السياسة عن تلك الرحلة طويلاً. والحقيقة أنها لم تلحق بالاقتصاد إلا بعدما اصطدم أول جماعتين، واحترب أول مقاتلين. ونتيجة لذلك الضرر المتحقق الذي استشعره الإنسان وهو يلعق جراحه بعد المعركة بدأ يفكر في طرائق للتفاهم مع الجماعات الأخرى بعيداً عن ميدان الحرب فكانت السياسة. هكذا، خرج الاقتصاد من رحم المجتمع بشكل فطريّ وفرضت السياسة نفسها عليه بضغط خارجي، ثم ظلّا بعد ذلك يلعبان أدواراً مهمة في مصائر الأمم، فحيناً يتكاملان معاً فتزدهر أمة، وحيناً يصدمان معاً فتُستنزف المقدّرات وتضيع المكتسبات. وحيناً تدعم إحداهما الأخرى إذا تأخرت، وحيناً آخر تجرّ إحداهما الأخرى إلى هاوية سحيقة.
عصرنا الحالي يشهد واحدة من التقاطعات المثيرة للاهتمام بين هذين العلمين الأزليين. السياسة اليوم تسخّر نفسها شرقاً وغرباً من أجل الاقتصاد. تدير السياسة الصينية بقبضة حديدية كلاً من علاقاتها الخارجية وشؤونها الداخلية من أجل أن توفّر مناخاً آمناً لازدهار اقتصادها المدهش. يطالب الأمريكيون رؤساءهم أن يبقوا علامة أمريكا التجارية التي أغرت العالم طويلاً في مأمنٍ من تحركاتهم السياسية الثقيلة. تتكتّل دول أوروبا مع بعضها على مضض متجاهلة تاريخاً طويلاً من الدماء في تاريخها القريب من أجل عملةٍ موحدة. تخلع روسيا عن نفسها ثوب الشيوعية العتيق في مخاض (بروسترويكي) مؤلم من أجل سوق مفتوح. كل هذا حدث في عقودٍ ثلاثة تقريباً سار أغلب ما سبقها من العقود في اتجاه معاكس تماماً كان الاقتصاد فيه هو الذي يسخّر نفسه شرقاً وغرباً في خدمة السياسة. مقدّرات ألمانيا الهائلة منذ بداية القرن العشرين وحتى منتصفه تم تسخيرها بشكل كامل لتغذّي أطماع هتلر التوسعية. قوت الأمريكيين الذين زحفوا من كافة الولايات باتجاه واشنطن ليطلبوا خبزاً وحساءً في العشرينات الميلادية أكلته آلة الحرب العالمية الأولى والثانية. الآلة العسكرية اليابانية التي روّعت جيرانها وأكلت أولادها انتهت باليابان إلى يباب لا تعيش فيه حيوانات البرية. وحتى عندما انتهت الحروب الكبرى وعاد العالم إلى رشده استمرّت حكومات الدول الكبرى في تجنيب مخصصات هائلة لسباق التسلّح أثناء الحرب الباردة كانت أولى بها جيوب التنمية وبطون الجوعى.
الآن، يعود العالم إلى استلهام الفلسفة الأولى التي قامت عليها أول شركة في التاريخ ويسعى لتطبيقها سياسياً. الشركات التي يجتمع ملاكها وموظفوها من أجل تحقيق عوائد أكبر هي نفسها الشعوب التي تجتمع مع قياداتها ومواطنيها من أجل تحقيق رفاهية أوفر. مفكرو العالم الذين ينظّرون لإستراتيجيات المستقبل تكلموا كثيراً عن مساحات مشتركة وتطبيقات متشابهة بين إدارة المنشآت وإدارة الدول. التخطيط الإستراتيجي الذي وُلد في رحم القطاعات العسكرية وتطوّر في ردهات السياسة انتقل اليوم إلى أروقة الشركات وتقارير المدراء. (الصراع) السياسي تحول إلى (تنافس) اقتصادي. من يقرأ كتاب (تسويق الأمم) لعرّاب التسويق الشهير فيليب كوتلر، أو (تنافسية الأمم) لعرّاب التنافسية الشهير (مايكل بورتر)، يكتشف تدريجياً أن (مدير شركة) و (رئيس دولة) أصبحتا مهنتين تتطلبان نفس المؤهلات تقريباً. كلاهما يسعى إلى استثمار مقدّرات الشركة/الدولة من أجل تعظيم مكتسباتها.
تسخير السياسة من أجل الاقتصاد هو دور لعبته النمور الآسيوية بكل مهارة قبل عقود وراحت تجني ثماره اليوم. وهو دورٌ يلعبه النمران الخليجيان (الإمارات وقطر) بمهارة لفتت انتباه العالم ورسّخت دعائم الاقتصاد المنوّع. تركيا تقطع خطى واسعة في هذا الاتجاه بعد أن أغلقت ملفاتها السياسية الشائكة واحداً بعد آخر، بعد أن اكتشفت أن أياً منها لم يعد عليها سوى بالأزمات الدولية والاحتقان الشعبيّ، وقررت أن تفتح بدلاً منها ملفات اقتصادية بدأت تؤتي أكلها فعلياً بارتفاع معدل دخل الفرد ونمو الاقتصاد القوميّ. المعجزة الاقتصادية البرازيلية التي تتحقق اليوم بعد سنوات من التراجع الاقتصاديّ لم تجدِ معه كل الحلول الاقتصادية العادية، ولم يتحقق بسوى (تعديل دستوري) تمّ على ضوء رؤية اقتصادية بحتة.
الوفود السياسية التي تذرع العالم شرقاً وغرباً أصبحت تحشد فيها من رجال الأعمال أكثر من وزراء الدولة. والأنشطة الدبلوماسية أصبحت حملات تسويقية. والطريق إلى صندوق الانتخابات في دول عديدة أصبح يمرّ عبر بورصة الأسهم. وفي اللحظة الحاسمة التي كادت تنقسم فيها كندا إلى نصفين لأسباب سياسية فادحة تمكّن الاقتصاد وحده من رأب الصدع عندما تراجع ناخبو مقاطعة (كيوبيك) من التصويت للانفصال خوفاً من عدم قدرة اقتصادهم المنفصل عن المنافسة في سوقٍ عولميّ ضخم، فابتلع قادة الانفصال مشروعهم السياسي، وتنفّس رجال الأعمال صعداء الوحدة الوطنية. وسجّل الاقتصاد موقفاً جديداً أنقذ فيه أمة بأسرها من متاهة سياسية كبرى.
هيمنة الفكر الاقتصادي على القرار السياسي أصبحت واقعاً دولياً، ولكنها أيضاً حالة مثلى وضرورة متأخرة. فالاقتصاد، كعلم اجتماعي، يهدف إلى توزيع موارد المجتمع على أفراده بعدالة. والدولة، كمجتمع سياسي، لا ينبغي لها أن تسعى لغير ذلك، وبالتالي ليس لها من سبيل إليه إلا عبر بوابة الاقتصاد. هذه الرؤية تأخرت طويلاً لأن العالم كان بحاجة إلى أن يفتح نوافذ أكثر حتى يتسنى له رؤية الأفق، وهذا ما حققته له مساراتها الحضارية تقنياً ومعلوماتياً. تم تطبيق هذه الرؤية في دول عديدة قبل عقود، وبعضها بدأ في تطبيقها للتو، ولكن ما يميز هذا العقد هو أن عدد الدول التي بدأت تسخر سياستها لخدمة اقتصادها أصبح كبيراً. والذي يقرأ مجلات المال والأعمال الكبرى يكتشف أن إعلانات (الدول) تضاهي إعلانات (الشركات). هذه العدسات الاقتصادية التي أصبح الساسة ينظرون من خلالها إلى العالم لا بد أنها ستصنع عالماً مختلفاً، ولعل المقالة القادمة تتخيل شكل هذا العالم.