نحن لا نتوقع منكم صاحب المعالي أن تكونوا شمساً شارقة حارقة على كل الأوكار وفوق كل المشاريع المسلوبة وخلف كل المكاتب. نحن نطلب من معاليكم أن تضع النظام وأن ترسم للجميع خارطة الطريق
أولاً، نعتذر صاحب المعالي، إن كنا قد استعجلنا برسائلنا إليك، وأنت الذي ربما لم يمسك مفتاح مكتبه حتى اللحظة. نعتذر حتى إن كنا قد تجاوزنا المؤمل في آمانينا وآمالنا منك، وفي نهاية الأمر فإن مكتباً مركزياً مثل هيئة مكافحة الفساد لا يمكن له أن يكون سيفاً مشرعاً على رؤوس الفاسدين في وطن ترامت به الأطراف وكثرت فيه آلاف الدوائر والمكاتب. وخذ بالمقاربة صاحب المعالي أننا فشلنا من قبل في مكافحة حمى الضنك رغم أننا نشاهد ـ الناموس ـ بالعيون المجردة مثلما فشلنا أيضا في مكافحة انتشار قرود البابون رغم أنها ترقص معنا على أطراف الطريق العام. وليعلم صاحب المعالي أن ـ زمر الفساد ـ اليوم باتت أكثر تخفياً وتوالداً من الناموس وأدهى من (قردة البابون) مثلما يعلم معاليه أن أقبح الأمراض هي تلك التي تتحول أسماؤها إلى ذائقة لغوية عامة مستساغة حتى أصبحنا نتحدث عن الفساد والمفسدين في كل مقال وخطبة وديوانية ومجلس بل حتى، بربما المؤكدة، أن بين هؤلاء الفاسدين من يشاركنا الرأي والحديث ومن يلعن هذه الظاهرة وأهلها وهو يعلم ما في قلوبنا مثلما نعلم ما في قلبه. نحن مع مفردة الفساد تماماً مثلما كنا مع مفردة الإيدز: كان اسم المرض في آذاننا مخيفاً مرعباً، ومثل الفساد، كنا نظنه حكراً على المجوس والنصارى وأطراف الغرب الأقصى البعيد ومن أوغلوا في البعد عن الله ثم عن الفطرة الإنسانية. ثم مضى بنا الزمن حتى صار مريض الإيدز يعالج في الغرفة المجاورة دون أن تهتز في لحانا شعرة واحدة يا صاحب المعالي. ثانياً، فأنت تعلم أننا من قبل حاولنا مكافحة الفساد بكل ما أوتينا من الحناجر. حاربناهم بآيات القرآن الكريم ويعلم الله أنهم معنا حتى في ليلة ـ ختم القرآن ـ يذرفون الدموع ويؤمِّنون معنا على الدعاء. حاربناهم بالحديث الشريف مثلما ألقينا على كل هذا المجتمع آلاف المواعظ والخطب والمحاضرات، ومثلما نحن مؤمنون أنه لا توجد وصفة على وجه تاريخ الإنسان بأفضل وأروع من هذا الدين العظيم في ثوابه أو حتى في وعده ووعيده. حاربناهم بآلاف المقالات ومثلها من التحقيقات والأخبار بمثلما حاربناهم بمباحث الإدارة ودوواين الرقابة. أودعناهم، أو بعضهم، في غياهب السجن فاكتشفنا أنهم لا يدخلونه إلا نهايات ـ شعبان ـ ليخرجوا منه في عفو رمضان. لم نترك، صاحب المعالي، طريقة ولا وسيلة إلا وسلكناها في الحرب على الفساد ثم اكتشفنا أن كل هذا الحشد الهائل من المكافحة لم يلد إلا النقيض: هم يحتشدون ويتكاثرون كلما زدنا في المقالات والمواعظ والخطب.
صاحب المعالي: نحن جربنا كل الوسائل إلا من وسيلة القانون، والقانون الذي أعنيه ليس العقاب وحده. إنها البدائل أيضاً في الإدارة. نحن لا نتوقع منكم صاحب المعالي أن تكونوا ـ شمساً شارقة حارقة ـ على كل الأوكار وفوق كل المشاريع المسلوبة وخلف كل المكاتب. نحن لا نطالبكم بأن تكونوا عصا القانون ولا صوت الإدانة. نحن نطلب من معاليكم أن تضع النظام وأن ترسم للجميع خارطة الطريق. الحرب على الفساد منظومة إدارية متكاملة. نحن فشلنا في مكافحة حمى الضنك لأننا سمحنا للناموس أن يتوالد في المياه الراكدة. نحن لم نقم بتغيير مجرى الماء مثلما لم نقم مطلقاً بحركة التغيير الإداري وطالما كانت المناصب لدينا ـ ترقية ـ بحسب المرتبة وصكوكاً لملكية المكاتب فإنما نؤسس لمراقد البعوض. ما الذي تتوقعه من وظيفة احتكار تدوم لعقد أو عقدين من الزمن أن تثمر وماذا ستفعل صاحب المعالي إذا ما علمت أن 70% من موظفي القطاع العام يقضون السنوات العشر الأخيرة من رحلتهم الإدارية في ذات المكان بصفته المرتبة الأعلى التي استطاعوا أن يصلوا إليها في مشوارهم الوظيفي؟ التدوير الوظيفي، يا صاحب المعالي، ليس أن نستبدل ملكة النحل في رأس الإدارة الحكومية ونترك بقية السرب يقتاتون على العسل نحن جربنا هذا مع مكافحة البعوض حين نعدم كباره بالرش، ولكننا لم نكسر صغار البيض المتوالد في دورة الحشرة. نحن جربنا هذا مع قردة البابون حين قال لنا خبير عالمي أن ـ نخصي ـ كبار الفحول دون أن نلمس صغارها المتوالدة. وأخيراً صاحب المعالي، نحن لا نطلب منكم أن نكون في مرتبة السويد أو النرويج، نحن نعلم أن البيئة مختلفة مثلما هي العقلية أيضاً. المسطرة التي تحكم بيننا وبينكم بعيد أربعة أعوام من اليوم أن نشاهد أين صعدت بنا في سلم الشفافية العالمي المنشور بلمسة على الشبكة.