لم يعد الاستعداد العسكري مطلباً وحيداً للأمن بل أتى في أولوية تلك المتطلبات الأمن الفكري الذي يشكل الأساس في القضاء على الإرهاب الذي أصبح مشكلة الأمم في هذا العصر
مطلوب منا كأفراد وجماعات ومؤسسات، أن نعي تماماً أننا نعيش في عصر الألفية الثالثة وأن ندرك تماماً متطلبات هذا العصر لنحقق لمجتمعنا أمرين أساسيين هما: الأمن والتطور.
والأمن يأتي في المقدمة لأنه متطلب أساسي للتطور. فليست هناك أمة متطورة وهي غير مستقرة. وفي زمن ماض كان للأمن متطلبات محددة جعل هذا العصر تلك المتطلبات تختلف وتتغير. فلم يعد الاستعداد العسكري مطلباً وحيداً للأمن بل أتى في أولوية تلك المتطلبات الأمن الفكري الذي يشكل الأساس في القضاء على الإرهاب الذي أصبح مشكلة الأمم في هذا العصر. ويعتبر الإرهاب الفكري في عصرنا هذا المشكلة الكبرى والعامل الأساسي في انعدام الأمن.. ويأخذ الإرهاب الفكري أشكالا متعددة وألوانا مختلفة، وساعد على ظهوره تكنولوجيا الاتصال الحديثة فأصبح من الصعب وليس من المستحيل التعرف على خصائصه وصوره ومكامن تنظيماته ويتطلب الأمر جهوداً منظمة وأبحاثا علمية خاصة وكفاءات متخصصة ومهارات وطرقا وأساليب، ومشاركات مجتمعية من كل أطياف المجتمع للتعرف على أسبابه وأهدافه ومكامنه ومراحل تكوينه الأولى. كما يتطلب الأمر تنسيقاً بين كل الجهات المعنية التعليمية والأكاديمية والأمنية والمجتمعية في تنسيق متناهي الدقة لتحقيق ليس الشراكة فقط بين تلك الجهات ولكن التكامل بين أعمالها لأنها إن عمل كل منها بشكل منفرد فلن تتحقق النتائج التي نأملها مهما بلغت دقة عمل تلك الجهات. فلا بد من التكامل. ولعل من أسباب عدم النجاح بالمستوى الذي نريده هو غياب التكامل وعمل كل جهة من تلك الجهات منفرداً أو بمستوى تنسيق وتعاون لا يحقق التكامل المطلوب. ويزيد الأمر خطورة إذا عرفنا ثلاثة أمور: الأول هو أن الإرهاب الفكري متلون متقلب ذكي ويستخدم أدوات وتقنية المعلومات في أعلى صورها. والثاني: أن المتورطين في الإرهاب الفكري نشطاء يمكن للفرد منهم أن يكتب في جلسة واحدة مئات أو آلاف الرسائل بأسماء متغيرة وأساليب مختلفة حتى يبدو للمتلقي أن هناك كثرة ممن يؤمنون بالفكر الذي يتم طرحة. والثالث: أن رؤوس هذا الفكر وينابيعه مجهولة وقد لا يكون بينها وبين أدوات الفكر من الأفراد أي رابط حتى إذا ما انكشف فرد أو مجموعة بقي الينبوع صافياً متدفقاً ولا نعرف متى يعملون وأين يعملون. هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه الحرب على الإرهاب الفكري وبالتالي تحقيق الأمن الفكري. ولهذا لا بد أن تكون الجهود أكبر من مستوى ذكاء ومستوى جهود ومستوى فكر هذا الإرهاب حتى يمكننا عندئذٍ القضاء عليه.
الجهود التي تبذل الآن لمواجهة هذا الداء الخطير، والمتمثلة في كراسي البحث مثل كرسي الأمير نايف للوحدة الوطنية في جامعة الإمام وكرسي الأمير خالد الفيصل للوسطية في جامعة الملك عبدالعزيز جهود جيدة لكن الخشية أن تغرق هذه الجهود في الأكاديمية التي قد تأخذ منحى التنظير الذي لا يمت للواقع بصلة قوية. الأكاديمية أحيانا تعيش في برج عاجي بعيد عن الواقع وما يعانيه المجتمع من مشكلات وإذا أردتم الدليل فانظروا إلى أبحاث الترقيات التي يقوم الأكاديميون (وأنا واحد منهم) بها. وانظروا إلى نسبة علاقة تلك الدراسات بالواقع ومعالجة مشكلاته وسترون العجب. إنها دراسات حققت للأستاذ هدفه الأساسي وهو الترقية ثم بقيت حبيسة الأدراج يتكوم عليها عجاج الوقت. هذا أمر. والأمر الآخر أن بوادر أعمال تلك الكراسي قد اقتصرت على ندوات ومحاضرات وورش عمل يحضرها طلاب وأكاديميون. بمعنى أنها تنطلق من الأكاديميين وتعود إليهم. والإرهاب الفكري يدخل علينا من كل زاوية وباب. وعندما قلت في بداية حديثي إن التكامل شرط أساسي بين أطياف المجتمع فإنني أعني أن نسد كل الثغرات. فالجهات الأمنية لها دور أساسي في توفير نوع خاص من المعلومات والجهات الأكاديمية تطبق منهجية البحث العلمي الذي يرسم الطريق للوصول إلى تحديد المشكلة واقتراح المعالجات. وإشراك المرأة مثلاً شراكة قوية تتمثل في إدخالها في عضوية اللجان وفرق البحث والمناقشات وورش العمل أمر مهم. كما أن إشراك فئات من المجتمع مثل بعض أولياء أمور الطلاب والمعلمين والمتخصصين في تقنية المعلومات البارعين في هذا التخصص تحديداً وبعض قيادات التعليم الذي يرسمون سياساته ويقرون برامجه خصوصاً ما يتعلق منها بالأنشطة اللاصفية بالإضافة إلى ممثلين من الطلاب ذوي المهارات العالية يتم انتقاؤهم بعناية وكذلك ممثلين من وزارة الشؤون الإسلامية أُمور مهمة. إن شراكة الفئات السابقة يحقق استيعاباً كاملاً للمشكلة والحل من كافة أطياف المجتمع. فلا يكفي من وجهة نظري أن تقوم فئة خاصة من الأكاديميين بكل العمل ثم تعطيه جرعة واحدة كبيرة وقوية لتلك الفئات المستهدفة. هذا لن يحقق استيعاب المشكلة بالقدر الكافي واستيعاب أدوات الحل وتنفيذها بالمستوى المُستهدف. ثم إن الأعضاء من كل تلك الفئات يقومون أيضا بالمشاركة في إلقاء المحاضرات وتقديم ورش العمل كمصدرين لا متلقين. فكل فئة تقف على منظور خاص يختلف عن منظور الفئة الأخرى. وكل فئة ستتحدث أثناء مناقشة المشكلة وأثناء إقرار آليات الحلول من منظور مختلف يحقق التكامل الذي يؤدي في النهاية إلى ما يسمى في مجال البحث العلمي(Degree Research 360). أخشى على الجهود المبذولة حالياً أن تكون جيدة لكن ليست كافية. لا بد في مثل دراسة هذا النوع من المشكلات المستعصية من تطبيق هذه المنهجية التي تحقق الشمولية. والأمر الأهم هو انتقاء ممثلي تلك الفئات لأنهم جميعاً يشكلون حلقةً في سلسلة هذه القضية المهمة والصعبة. والحلقة الضعيفة ستضعف قوة السلسلة انطلاقاً من الحكمة القائلة: إن قوة السلسلة تساوي قوة أضعف حلقة فيها مسرحنا المجتمعي أصبح معقداً فلم يصبح ذلك المسرح البسيط الذي كان متناغماً يتلقى فيه الفرد في المدرسة نفس الفكر الذي يتلقاه في البيت والمدرسة والمسجد والجامعة والشارع. زاد تعقيد ذلك المسرح عصر العولمة بأدواته الحديثة التي أصبحت متناقضة مع ما يتلقاه الفرد داخل مجتمعة وأثّر حتى على منظومة أدوات المسرح المجتمعي فأصبح بعض ما يتلقاه الفرد من بعضها متناقضاً مع البعض الآخر فيما سمي حديثاً بـ المنهج الخفي الذي نعرف جميعاً كيف يعمل ولا بد أن نعرف متى وأين يعمل ومن هم القائمون عليه. أظن أننا بهذا المستوى من العمل سنصل إلى الحل.