على هذه الجهات الرقابية تزويد الهيئة بالبيانات والمعلومات والإحصاءات ذات العلاقة بالفساد، وعلى الهيئة دراستها وتدقيقها وتحديد مدى تغطيتها لظواهر الفساد، ودرجة الدقة والمصداقية التي تتسم بها

تضمنت الأوامر الملكية الكريمة، والتي صدرت مؤخراً، إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ترتبط بخادم الحرمين الشريفين حفظه الله مباشرةً، ويتولى رئاستها الأستاذ/محمد بن عبد الله الشريف، بمرتبة وزير، وتضمن القرار أن يقوم رئيس الهيئة، ورئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، وضع التنظيم الخاص بها، على أن يصدر من مجلس الوزراء خلال ثلاثة أشهر.
وتابع القرار أن مهام الهيئة تشمل كافة القطاعات الحكومية، ولا يستثنى من ذلك كائن من كان، وتسند إليها مهام متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات الخاصة بالشأن العام، ويدخل في اختصاصها متابعة أوجه الفساد الإداري والمالي.
وبالرغم من أهمية القرارات الملكية الأخرى، ودورها البارز في رفع مستوى المعيشة ورفاهية المواطنين، إلا أن قرار إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لفت أنظار الكثير من المواطنين، وذلك أن الأمر يتعلق بالفساد المالي والإداري، لذا يتساءل البعض ما هو دور هذه الهيئة في مجال مكافحة الفساد؟ وما علاقتها بالأجهزة الرقابية الأخرى مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق؟.
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، أجد من الضروري الرجوع في البداية إلى الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، حيث إنها تضمنت الآلية لتطبيق هذه الاستراتيجية عن طريق إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي من مهامها ما يلي:
• متابعة تنفيذ الاستراتيجية ورصد نتائجها وتقويمها ومراجعتها، ووضع برامج عملها وآليات تطبيقها.
• تنسيق جهود القطاعين العام والخاص في تخطيط ومراقبة برامج مكافحة الفساد وتقويمها.
• تلقي التقارير والإحصاءات الدورية للأجهزة المختصة ودراستها وإعداد البيانات التحليلية في شأنها.
• جمع المعلومات والبيانات والإحصائيات وتصنيفها، وتحديد أنواعها، وتحليلها وتبادلها مع الجهات المختصة ذات العلاقة.
ومما سبق يتضح أن للهيئة مهام عديدة وتحديات كبيرة، ليست في الشأن الحكومي فحسب، بل وفي قطاع الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص والمصارف والبنوك والأسواق المالية أيضاً، وهذه التحديات تتمثل في السيطرة على الفساد وتحجيمه وتقليصه والتقليل من مخاطره، وذلك عن طريق رصد وتحليل ظواهر الفساد وأنماطه، وتقصي عوامله وأسبابه، وتشخيص أشكاله القطاعية والمؤسسية والتعرف على آثاره ونتائجه، بالإضافة إلى تقييم برامج وجهود مكافحته، وذلك وفقاً لأسس علمية ومنهجية، تتيح الوثوق في النتائج والاستنتاجات التي يتم التوصل إليها.
هذا باختصار شديد للدور الرئيسي للهيئة، والتي تم استخلاصها من خلال الاستراتيجية والقرار الملكي الكريم.
ولتوضيح دور الهيئة أكثر، لنأخذ على سبيل المثال حالات الاختلاس في الجهات الحكومية، فمن الضروري هنا رصد حالات الاختلاس من خلال الجهات المختصة، مثل الحالات التي تم اكتشافها من قبل الأجهزة الرقابية، والقضايا الخاصة والموجودة في المحاكم، وكذلك القضايا التي تم التحقيق فيها، بالإضافة إلى ما يكتب في الوسائل الإعلامية، وبناءً على هذه المعلومات يتم التعرّف إلى نوع الوظيفة التي يشغلها من يقومون بعمليات الاختلاس، وتحديد المسؤوليات والصلاحيات الممنوحة لهم، ومعرفة معايير وإجراءات الأعمال التي يقومون بها، وتحديد آليات وضوابط المساءلة التي تخضع لها الجهات التي حدثت فيها عمليات الاختلاس، كما يدخل أيضاً في عملية التحليل والرصد، عملية فحص نظم الرواتب والأجور والحوافز، وأسلوب تقييم أداء العاملين في هذه الجهات، وأسلوب اختيارهم وترقيتهم، وأنماط الإشراف والقيادة التي يخضعون لها بالإضافة إلى تحديد كيفية حدوث عملية الاختلاس سواء كانت بسبب وجود ثغرات رقابية أو فنية أو قانونية.
ونقيس على حالات الاختلاس باقي أشكال وأنماط الفساد الأخرى مثل التزوير والرشوة، واستغلال النفوذ وإساءة استعمال السلطة، والتلاعب باشتراطات رقابية على مواصفات سلعية أو متعلقة بإنشاء مشروعات إنتاجية أو خدمية. هذا فيما يتعلق بدور الهيئة بشكل عام ومختصر، وبالطبع هناك مهام وأدوار أخرى لها، لا يتسع المجال للحديث عنها وخاصةً فيما يتعلق بعملية قياس الفساد، والتي عن طريقها يمكن التعرف على نوعية وحجم ظواهر الفساد وشدتها ودرجة تغلغلها قطاعياً وهيكلياً، وبالتالي إمكانية متابعة تطورها ومقارنتها داخلياً وخارجياً.
أما فيما يتعلق بعلاقة الهيئة مع الأجهزة الرقابية مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق وغيرهما، فقد حدد الأمر الملكي الكريم نوعية هذا العلاقة وذلك بالنص على: دون الإخلال باختصاصات الجهات الرقابية الأخرى تقوم الهيئة بالتنسيق اللازم مع تلك الجهات فيما يخص الشأن العام ومصالح المواطنين، وعلى تلك الجهات تزويد الهيئة بأي ملاحظات مالية أو إدارية تدخل ضمن مهام الهيئة. ويتمثل دور ديوان المراقبة العامة في مجال مكافحة الفساد من خلال مهامه واختصاصاته والمتمثلة في الرقابة والمساءلة في مفهومها الواسع، بالإضافة إلى دور الديوان المانع والوقائي للفساد وكشفه أيضاً، وذلك من خلال تقييم أنظمة الرقابة الداخلية للجهات الخاضعة لرقابة الديوان.
أما دور هيئة الرقابة والتحقيق فيتمثل في إجراء التحقيق اللازم، بالإضافة إلى إجراءات الضبط القضائي تمهيداً لمحاكمة المخالفين، وبالطبع لا ننسى دور هيئة التحقيق والادعاء العام في مسألة الجرائم المالية والاقتصادية.
وبناءً على ما سبق فإن على هذه الجهات الرقابية تزويد الهيئة بالبيانات والمعلومات والإحصاءات ذات العلاقة بالفساد، وعلى الهيئة دراستها وتدقيقها وتحديد مدى تغطيتها لظواهر الفساد، ودرجة الدقة والمصداقية التي تتسم بها، فضلاً عن الاستفادة منها في عملية الرصد والتحليل.
وفي النهاية أتقدم بالشكر الجزيل لخادم الحرمين بهذا القرار الهام والاستراتيجي في مجال مكافحة الفساد، والذي جاء مكملاً لقرارات إصلاحية سابقة، والتي منها دعم الأجهزة الرقابية بالوظائف اللازمة، وتفعيل وحدات المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية، بالإضافة إلى الدعم المالي والمعنوي لها.
ختاما أود الإشارة إلى أن مكافحة الفساد ليست من مسؤوليات الهيئة والجهات الرقابية فحسب، بل من مسؤوليات جميع قطاعات الدولة وفئات المجتمع بجميع أشكاله وأطيافه.