دمشق: علي العائد

يستطيع مجتمع الرواية، من حيث هو نصف حقيقة ونصف خيال، أن يقدم أكثر من أمثولة في بنية الحكاية للطرف الآخر. كما يستطيع الكاتب بأسلوبه الذي يميزه، إذا أمكن ذلك، أن يأخذ القارئ في نزهة معرفية يكاد فيها لا يميز بين الحقيقة والخيال، لكن ذلك مرهون أولاً وأخيراً بما يمكن أن نسميه الذكاء اللماح الذي يجد ترجمته في كلمة واحدة جامعة: الموهبة!
لكن الكاتب عدنان فرزات، هنا، يهدر مادة غنية، وشخصيات تكاد تكون فريدة، في محاولته إفراغ ذاكرته الأولى عن المدينة. سبب ذلك، قطعاً، وقوعه في شَرك تدفق الأفكار بدلاً من تقنين تنظيم تدفقها. ولعل من علامات ذلك، أيضاً، محاولته الانتقاء، فمفردات الحياة، التي هي أغرب من الخيال في كثير من الأحيان، تجعل للحدث نسقاً وترتيباً منطقياً. ولدى محاولتنا التلاعب بهذه الأنساق دون دراية كافية نفسد الترتيب والمفردات معاً.
رواية جمر النكايات لفرزات، هي استرجاع لمفردات المدينة من خلال ذكريات شاب غاب عن مدينته دير الزور عشرين عاماً، ولدى زيارته الأولى بعد فترة الغياب تلك يعيد سرد حادثة ترشيح السيدة هداية لنفسها لعضوية مجلس الشعب، ومن خلال ذلك يبرز الكاتب تعلق أهل حي (الكجلان) بهذا الأمل الذي شكلته السيدة هداية للخروج من حالة الإحباط والبطالة التي يعيشها شباب الحي، كذلك في محاولة لتغيير الوجوه المجربة لممثلي الحي والمدينة الذين خذلوا ناخبيهم.
وضمن ذلك يقدم الراوي، تفاصيل عن صداقاته الأولى، وعن روايات الآخرين عن أحداث عرفها عن قرب، أو بعد؛ مع وعد متكرر لابنة أخت الراوي بأن تكون تفاصيلها في رواية قادمة، وهذه سقطة واضحة لوعي الكتابة، أكثر منها طريقة وأسلوباً للتشويق والانتظار، فما يصلح للأساليب البصرية المرئية والتمثيلية قد لا يصلح بالضرورة للكتابة التخييلية، شأن الرواية.
يمكن الثناء على النفس الشاعري في بعض العبارات، مع تحفظ وحيد على استخدام بعض التعابير التي تتجه للغموض في محاولات الكاتب إضفاء لمسة شاعرية على بعض المشاهد.
وربما كان الصراع الذي عاشته شخصية كسار بين الواجب والمصلحة، وتصوير الكاتب لهذا الصراع على شكل حوار فصامي بين كسار القديم والجديد، ربما كان هذا المشهد أجمل ما في الرواية، ومع ذلك لم يذهب الكاتب في خياره حتى النهاية. قد يكون السبب في واقعية الحدث الذي عاشه الكاتب كشاهد عيان، ومن هنا قصَّر الكاتب في إطلاق العنان لخياله الروائي، فتقيد بحرفية الذاكرة، في حين كانت الفرصة مواتية لإكساء تلك الشخصية المدهشة (كسار) بلحم حي يتعامل مع الخير والشر بطريق أكثر عمقاً مما خرجت به في المشاهد القليلة التي ظهرت فيها في الرواية. ويمكننا التطرق إلى أحد الجوانب الغنية في شخصية كسار، فهو (زكُرت، أو قبضاي)، وهذه الصفة تحمل من الحمية والرجولة ما تحمل، لكنها تحمل من العناصر الإجرامية معادلاً قد يتفوق على الصفة الأولى. كما أن كسار يربي الحمام، وصفات الحممجي، في المرويات الشعبية في أكثر من مدينة عربية، تشبه صفات المقامر، حتى يُقال إن الحممجي لا تُقبل شهادته. ولسنا هنا في معرض إطلاق حكم قيمة على شخصية روائية، فللكاتب مطلق الحق في إلباس شخصيته ما يريد من الصفات والأفعال، وحتى الصفات الشريرة، عند الإنسان الشرير، تصطدم بحالة خاصة، أو شديدة الخصوصية، فتتفجر فيه كل صفات الخير والشهامة من حيث لا يدري حتى صاحبها. وما نريد الوصول إليه أن ذلك الغنى في شخصية كسار كان كافياً لإنشاء رواية حولها، دون إقحام شخصيات هامشية أخذت دور الكومبارس دون أن تضيف شيئاً إلى فكرة الرواية التي صدرت عن دار صائب للنشر والتوزيع ضمن سلسلة روايات المدن، سوريا، دير الزور 2010.