يختتم الكاتب مقاله –المنشور في 1983- بالتساؤل حول قدرة أعمال الإنشاء الرهيبة ومسيرة الحداثة على تغيير العقليات بالسرعة التي تغيّر بها المنظر

بين يديّ صورة لمقال في صحيفة اسمها: The Whig Standard، وهي الصحيفة المحليّة لـ (كِنغستُن)، البلدة الصغيرة في شرق أونتاريو بكندا. العدد صادر يوم 10 سبتمبر 1983. والمقال.. للمفاجأة.. يتحدث عن العاصمة الرياض.. مدينة المليار دولار كما أسماها الكاتب ووصفها بالتي ترفع خِمار التقاليد عن وجهها شيئاً فشيئاً!.
لماذا اهتمت صحيفة كندية بسيطة بالرياض قبل 28 سنة؟ وكيف كانت صورتنا لدى الرأي العام الغربي في ذلك الوقت؟ قبل بعابع الإرهاب والتغريب وقيادة المرأة؟
يقول الكاتب إن عاصمتنا تشهد طفرة عمرانية هائلة لتتحول إلى مدينة عصرية برّاقة. مدينة تستقطب أعتى الخبرات الهندسية والإنشائية في العالم بغرض تغيير وجهها الصحراوي إلى آخر تغمره الطرقات الفارهة والواجهات الرخامية.
الرياض كانت تحتفل آنذاك بمطار دولي كان وقتها (الأكبر في العالم)، وبحيّ ديبلوماسي فاره، وبمشاريع متوالية تُوفر فرص العمل لأفواج من الوافدين والعمالة اللازمة لتغطية النقص في الأيدي العاملة الوطنية.
لكن المقال، المنشور قبل 28 سنة، يتوقف عند نقطة محورية. فالسعوديون –كما يذكر- يعانون من نقص في الخبرات العلمية والتقنية أيضاً. مع أن آمالاً كثيرة معقودة على الأجيال الناشئة الشغوفة بالتكنولوجيا للانطلاق بالبلاد إلى ذروة من العصرنة والحداثة. يربط الكاتب بين هذه النهضة العمرانية والبشرية المرتقبة وبين مداخيل النفط القياسية التي تتيح مجالاً غير مسبوق للرياض على خارطة المدن العالمية الكبرى.
ماذا أيضاً؟ يتكلم المقال عن إشكاليات الحداثة. وكيف أن الرياض، كمثال للحاضرة السعودية النامية، تعاني بين الحاجة للأجانب وغير المسلمين متعهدي عقود التنمية، وبين الثقافة التقليدية المتهيبة من كل أجنبي. بين مظاهر المدنية السطحية، وبين غياب دور السينما ومنع النساء من قيادة السيارات. ويختتم الكاتب مقاله –المنشور في 10 سبتمبر 1983- بالتساؤل حول قدرة أعمال الإنشاء الرهيبة ومسيرة الحداثة والعصرنة على تغيير العقليات والأذواق بالسرعة التي تغيّر بها المنظر عبر الأفق.
حين تقرأ هذا المقال الكَندي لأول مرة، فإنك لا يسعك أن تمنع نفسك من التأكد من تاريخ نشره بين كل جملتين. أن تتأكد من أن هذا الكلام.. الذي يواجهك اليوم عبر الصحف ومواقع الإنترنت والقنوات الفضائية.. هو نفسه قد قيل وطرح ونوقش قبل أكثر من ربع قرن!
ستحس بالدوار وأنت تفكر أننا.. نحن المحسوبين في خانات الأعداء أو الأصدقاء لا فرق.. أننا كلنا نخوض ونفكر في ذات التساؤلات والهموم. وأننا.. مازلنا ومنذ ذلك الوقت.. ننتظر أن يهل علينا المستقبل المنظور بإجابات لتساؤلاتنا المصيرية جداً التي لم تتغير.
طبعاً هناك جزء صغير من عقلك سيتحسس من المسألة برمتها. سيعلقها على مشجب (نظرية المؤامرة) العتيدة.. فمن غير المستبعد أن هذا الكلام.. المدسوس ضمن أسطر صحيفة كندية مغمورة.. ما هو إلا واحدة من محاولات الغرب الدؤوبة والمستميتة لـ اختراق خصوصيتنا منذ ذلك التاريخ وأكثر. هذا المقال القديم ليس إلا مؤامرة أخرى لزعزعة ثوابتنا وحجب شمسنا.. هكذا قد يهمس ذاك الجزء الصغير من عقلك قبل أن تنهمر عليه صور الواقع وتسكته.
هل كان التعليم والصحة أفضل عام 83؟ كيف تغيرت أرقام الجريمة ومخالفات المرور منذ ذلك التاريخ؟ أم أن هذه تغيرات طبيعية عطفاً على زيادة السكان وتغير الخارطة الديموجرافية؟ بلغة النسبة والتناسب.. هل هي فعلاً زيادات طبيعية؟
تعالوا نلعب مع التاريخ لعبة. شبيهة بلعبة الفروقات بين الرسمين في الصفحات الترفيهية.
تعالوا نحتفظ بالمقالات التي يكتبها الآخرون هنا وهناك عنّا هذه الأيام. عن مشاريعنا الاستثنائية الطموحة وخططنا لتغيير وجه بلادنا ووجه العالم.. المدعومة بازدهارنا وبمداخيل نفطنا القياسية. فلنلتق -إن كان لنا عمر- بعد 28 سنة من اليوم ولنتأمل في الذي صار ماضياً وفي الذي سيكون حاضراً. ولنأمل أن يكون الحال حينها أفضل وأن تكون الفروقات شاسعة وإيجابية.