لماذا باتت كلمة التعصب من أكثر المصطلحات في لغتنا مظلومية! فأصبحت دائماً ما تلبس بثوب الجهل إلى أن جرت العادة على اقتصار مفهوم العصبية على الانحياز الطائفي أو الحزبي العشائري والقبلي، وأصبح الفرد يرى من خلالها القشة في عين غيره ولا يرى الخشبة في عيون قومه؟
منذ ظهور الإنسان على الوجود، كان التاريخ عبارة عن تكامل العصبيات، وهذا ما أشار له علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي في كون الإنسان لم ير نفسه على طول التاريخ بوصفه أنا مستقلة بل يحس على الدوام أن هناك رابطا بينه وبين الآخرين، وقد قامت العلاقات على أساس الدم أحياناً.. فالكل على أصل نسبي وعائلي ثم تتوسع الدائرة قليلاً إلى العرق وعلاقات أخرى على أساس وحدة التراب في كونهم يعيشون في بقعة جغرافية واحدة وعلاقات أخرى على أساس القومية وهي أرقى من وحدة الدم والتراب بمعنى تعصب الفرد للآخرين الذين لديهم ماض مشترك ولغة مشتركة.
أما اليوم فأرقى العلاقات هي تعصب أبناء الإنسانية لبعضهم البعض وإدانة روابط الدم والتراب والقومية والعرقية ثم تطورت العلاقات والروابط العصبية للذين يتوافقون وينسجمون في الفكر والعقيدة والرؤية المشتركة من هنا فأقدس رابطة بين أبناء الإنسانية هي وحدة الفكر والعقيدة وليس مجرد كونه إنسانا على طريقة وجود فرس ممتاز بآلاف الريالات وفرس رديء لا يصل إلى بضع ريالات مع أنهما جميعا من نفس النوع.
كنت أعتقد إلى وقت قريب بأن الرابطة الفكرية هي أرفع رابطة وأتعصب لها كثيرا لكنها ليست شيئا على حد تعبير سارتر لأنها لم تمر بقناة العمل. إن مجرد امتلاك فكر وإيمان مشترك ليس له تأثير على حياة الفرد، ولكن هناك من يُضحي بنفسه عمليا ويحرق نفسه لإنقاذ مجتمعه ليكون المنقذ، وآخر يلقي بمجتمعه بهدوء في النار ليستعرض سيادته الفكرية على منظر ضجيج الجماهير ومشاعل النار القاسية فيكتب وينظم الشعر في ذلك.
فأفراد الأمة من أي لون أو دم أو أرض أو عرق لهم فكر مشترك في نفس الوقت الذي يلتزمون فيه بالتحرك عمليا صوب الكمال هذه هي العصبية المقدسة التي لا بد أن نُنظِر لها.
إنني أتساءل لماذا إذا خاطبنا إنسانا عاقلا وقلنا له مثلا إن كلامك يوحي بالتعصب! نجده يلتهب غضباً ويعتبرها إهانة ومن ثم تجده يدافع عن نفسه سريعاً، في حين أن كلمة التعصب بماهي تعد كلمة جميلة في أصالتها فهي مأخوذة من العصبة (الجماعة) الجذر الذي يربط الفرد بجماعته الإنسانية لأجل أن ينهض حامياً وناصراً لتلك الجماعة.. كلمة تعبر عن الوجدان الجماعي والروح الجمعية والانتماء والإحساس بالآخر.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا باتت كلمة التعصب من أكثر المصطلحات في لغتنا مظلومية! فأصبحت دائماً ما تلبس بثوب الجهل إلى أن جرت العادة على اقتصار مفهوم العصبية على الانحياز الطائفي أو الحزبي العشائري والقبلي، وأصبح الفرد يرى من خلالها القشة في عين غيره ولا يرى الخشبة في عيون قومه؟ الإجابة أنه عندما نقرأ الواقع المعاش وبعيدا عن المفهوم النظري الجميل للعصبية ونحلل التاريخ العربي والإسلامي وما فيه من تحولات سياسية واجتماعية نجد أنها ارتبطت ارتباطا وثيقا بالتحديد بالعصبية القبلية كما ذكر ابن خلدون وهي أدنى رابطة كما بينا سابقا، متجاهلة الروابط الإنسانية والفكرية والعملية، لينحرف المفهوم الجميل للعصبية إلى مفهوم قبيح.
حركات اجتماعية وسياسية تبدو في ظاهرها وشعاراتها وعقائدها المعلنة وكأن لا علاقة لها بالعصبية القبيحة، بل وربما كانت معادية للعصبية القبيحة بمجملها ولكنها عند التحليل تجد أنها تعيش الكواليسية العشائرية والقبلية السيئة الضاربة في الأعماق، حركات مثل حركة الخوارج، وثورة الزنج، والصراع بين بني هاشم وبني أمية، وغيرها من الأحداث التي تزخر بها كتب التاريخ.
إن الحقيقة المرة والتي لا بد أن يتجرعها الجميع أن العصبية القبيحة بجميع أنواعها وخصوصاً القبلية كانت لها كلمة الحضور الدائم بل هي المحرك الداعم في التاريخ العربي والإسلامي إلى يومنا هذا وما أفرزته من صراعات اجتماعية وسياسية.
وما نلحظه اليوم في عصر (الإنسان العالمي) ومع ما تعانيه مجتمعاتنا العربية والإسلامية من وضع مخجل على مستوى الروابط الفكرية والعملية ومهارات الاتصال مع الآخر نجد أن هناك أكثرية واعية تؤصل نظريا للروابط النسبية (روابط الدم والعرق) بل وتؤدلجها دينيا وتستنكر على من ينظر إليها بدونية!
فهذا من قبيلة فلان؟ أو من قبيلة فلتان؟ ومن الفخذ الفلاني؟ وتقام البحوث والدراسات المستفيضة المشروعة في علم الأنساب لتقصي الحقائق لتتحول النتيجة من البقاء في إطار التنظيم القبلي المشروع في حدود هذا الاتجاه إلى عصبية قبلية قبيحة أخرى مليئة بالنزاعات في اتجاه آخر حتى وصل الحال إلى صفحات الإنترنت متمثلا في وجود منتديات إلكترونية خاصة بقبيلة فلان، بل إن المسألة وصلت للطلاب في المدارس.
هذه الأكثرية أصورها كالإنسان الذي ينظر بعين واحدة، ويركز في زاوية ضيقة جميلة من اللوحة.. ليدرك معناها، ولكن بمجرد أن يبتعد قليلا عن اللوحة وينظر للمشهد بشكل شمولي من جميع زواياه ويتحول إلى منظر آخر يختلف كليا عما رآه سابقاً.
أكثرية تتحدث عن رابطة النسب بشكل مشروع وتعطي لها تأصيلا علميا وشعاراتيا معلنا، لكن في نفس الوقت هي غير مدركة بأن هناك كواليسية عشائرية وقبلية سيئة معشعشة في ذهنية الإنسان العربي.
هذه الأكثرية لا نشكك في إيمانها بما تقول أو أن نصفها بأنها مخادعة، لكن نقول إن الكلام في هذه المفردة (الرابطة النسبية وهي أدنى الروابط الإنسانية) أمر مشروع ولكن تشوبه الحساسية في جو مليء بالانفجارات القبلية مما يجعل الفرد يتأثر ويتحرك بهذا الاتجاه القبلي السلبي ومن دون أن يكون أيضا من الواعين بأثرها على سلوكه، فهو ضمن تركيبة اجتماعية يتأثر بها شاء أم أبى ولا يستطيع الانسلاخ منها بسهولة ولطالما كانت القبيلة هي الوحدة الرئيسية للمجتمع العربي، وبالتالي كانت هي من تسير الأحداث في كواليسها بشكل مباشر أو غير مباشر.