ما نشاهده اليوم يعطي إشارات مزعجة جداً حتى لأكثر المتفائلين والحالمين بزهو الغد، إذ لا يعقل أن يخرج الناس إلى الشوارع في تونس ومصر كل يوم جمعة لمجرد المطالبة بتغيير وزير، أو حتى مدير مصلحة حكومية.. هذه ليست مطالب ثوار أبداً

الثورات الحقيقية عادة تحدث مرة واحدة، ومن ثم يعود الثوار إلى منازلهم راضين مطمئنين؛ لرواية التفاصيل الصغيرة والشخصية جداً للأهل والأصدقاء، وفي اليوم التالي للثورة يتحول الحدث برمته إلى ما يشبه الذكريات الفردية للمشاركين فيها، ولكل واحد منهم حكاية، موقف، لحظة فرح، ولحظة ألم قد تصلح للتفاخر بها بقية العمر، وقد لا تصلح لأنها عادية أو مصطنعة.. شاركنا العرب الثائرين أفراحهم، وتغنينا بتلك الثورات لأنها خيارات شعوب تريد التغيير الحقيقي، أو على الأقل ذلك ما بدا لنا، كان فرحنا نابعاً من رؤية أشقائنا سعداء وهم يحققون آمالهم، كتمنا التحفظات والمخاوف والأسئلة الشائكة بالرغم ومن وجاهتها؛ كي نفرح ولو للحظة عربية نادرة في عمر الزمن. هكذا قرأنا المشهد في أيامه الأولى رائعاً وجميلاً، واعتقدنا بأن ذهول الفرح لابد أن يتراجع مع الأيام ليفسح المجال للعقل والعقلاء؛ لكن المؤسف أن ما نشاهده اليوم يعطي إشارات مزعجة جداً حتى لأكثر المتفائلين والحالمين بزهو الغد، إذ لا يعقل أن يخرج الناس إلى الشـوارع في تونس ومصر كل يوم جمعة لمجرد المطالبة بتغيير وزير، أو حتى مدير مصلحة حكومية، هذه ليست مطالب ثوار أبداً؛ الثورات الحقيقية لا تشتغل على التفاصيل الصغيرة، و(فلان لازم يمشي، وفلان مش كويـس)؛ هي تكتفي فقط برمي حجر ثقيل في مياه راكدة، أو بالأحرى تُحدث الزلزال الكبير، واللحظة الفارقة؛ ثم تعود من حيث أتت لتراقب المشهد عن كثب، ولتمنح الفرصة للقادرين كي يرتبوا الوقت والأحلام والأولويات، ويحدثوا التغيير المطلوب.. سقوط النظام ممكن وربما مطلوب بشدة في بعض حالات الألم الجماعي، لكن سقوط مؤسسات الدولة أمر مرفوض تماماً لأنه يعني الفوضى التامة التي تحرق الأخضر واليابس، وتعود بالشعوب للمربع الأول بصفة متكررة.
الآن مشكلة الثورات العربية هي في اليوم التالي كما يبدو، في المطالب التي تتوالد يومياً ولا تنتهي، في تلكؤ المشاركين عن العودة إلى البيت بعد أسابيع من حصول الثورة وتحقيق أهدافها الكبرى، والتي يأتي على رأسها بالطبع إسقاط الرئيس؛ إذ لا ثورات دائمة وطويلة، ولا اعتصامات مفتوحة حتى تتحقق رغبات ورؤى آخر مواطن في الصفوف التي طالت واستطالت؛ فمطالب الأحزاب والجماعات والقيادات في كل العالم لا يمكن أن تنتهي، ومن الصعب جداً ألا ينصرف الثوار إلا بعد تحقيق طلبات كل المشاركين فيها، وهم بالملايين!
نعم هناك من تسلق إلى عربة الثورة في مصر وتونس، ونعم هناك من يريد اغتنام الفرصة التاريخية للعودة إلى الحياة بعد أن كان مغيباً عنها، وهناك أيضاً من يحاول اختطاف الثورة لمصلحة الجماعة أو الحزب؛ لكن ذلك لا يعني رهن حياة الناس البسطاء والبلاد بأسرها للمجهول ريثما يقتنع سادة هذا الحزب أو تلك الجماعة بأن المطالب قد تحققت. هنا تدخل الثورة إلى نفق مظلم لا يمكن الخروج منه بسهولة؛ إذ إن نجاح أي ثورة لا يقاس عادة بحجم الهدم والإزالة لكل ما كان سائداً من قبل؛ بل بمدى القدرة على العودة السريعة بالشعوب إلى النظام والبناء المتصالح مع تنويعات المجتمع المختلفة، وكذلك القدرة على التحرر من عقدة الفرح الثوري الطاغي الذي يُحول الثائرين إلى مشدوهين ومشدودين بما أنجزوه؛ لشعورهم الداخلي بالقدرة المطلقة على تحطيم كل ما لا يعجبهم في الحياة، وتلك نشوة منفلتة تبدأ معها عادة عملية الفرز البغيضة التي تفرق بين أبناء الوطن الواحد: هذا معنا، وهذا كان ضدنا، هذا عدو الثورة، وهذا من مؤيديها، وهي لا تختلف في الشكل عن محاكمات التفتيش الشهيرة، بل تتشارك معها في نصب المشانق والبحث عن المخالفين برأي أو توجه، أو حتى مواقف سابقة فرضتها طبيعة الحياة داخل دولة ونظام..
الثورات ليست توبة تجب كل ما قبلها؛ لكنها لحظة فوضى طاغية تتطاير فيها الأوراق والمناصب والمواقف، ومن الممكن أن تتحول إلى كارثة كبيرة إن طالت وجثمت في الميادين والشوارع لأسابيع وأشهر وعطلت مصالح الناس الطيبين؛ بانتظار أن تولد مدينة فاضلة قد لا ترضي الجميع، وبالتأكيد لن ترضيهم.
فهل معنى ذلك أن يكون الحل في الخروج إلى الشارع كل يوم جمعة؟ وإلى متى، أعلم جيداً أنها لحظات انتقالية، لكن ثمة أمورا مزعجة أشاهدها كل يوم جمعة، وأرجو من قلبي أن تكون مجرد أوهام.