أبكيه، في كل ورقة وسطر من الرواية لأنها باختصار ذات صورتي وصورة آلاف المجايلين معي قبل أربعين سنة حين كنا تماماً مثل شخوص هذه الرواية: جيلاً يعيش بين زمنين، وكأن – طاغور – يلمحنا ليثبت بالبرهان صدق نبوءته: الزمن أقوى النقاد
(نسيت أن أخبركم أني لم أضيّع مفتاحين من بين كل المفاتيح... مفتاح هذه المنطقة الذي سأدسّه لكم كثيراً تحت بساط أوراقي.. ومفتاح بيت جدي القديم، المفتاح الخشبي المسنَّن الذي أفتح به حلم ماض جميل لأصعد سبعة طوابق/ سبع سماوات.. هل المفاتيح سواء تفتح الأحلام؟! توقظ الأيام! سؤال غبي جداً؟ وغير مهم جداً! لكني أريد أن أقذفه من لحاء دماغي: ترى من الذي رتب أوراق المناطق لتكون مفاتيح لدوائر الاتصال؟).
ما بين الأقواس بعاليه هو استهلال شقيقي الأصغر لعمله الروائي الأخير وفيه ينقل رسالة أدبية لافتة من (لزوميات 07) التي اختارها عنواناً لصوره الحكائية. ويبقى السؤال المهني الأخلاقي في عقد الكتابة ما بين الشقيق الأكبر لصاحب البوح وبين القراء: هل أكتب اليوم للدعاية والترويج أم أنني أصف مولود الأسرة الجديد وأنا الذي ما مللت طوال حياتي من التبشير بالمكان، ومن الدعاية والدعابة مع المكان، ومع الكتابة عن الأماني والآلام والآمال.
كتبت من قبل عن حزام أبودهمان مثلما أكتب عن آلاف الحكايات التي لم تكتب بعد عن الميزة المناطقية حين أسماها أخي الصغير (أمالي الأرض السابعة). أكتب اليوم عن الحكايات (البكائيات) التي دونها الراوي عن (حداثيات) الراعي. عن القرية الجبلية الموحشة التي تجثو على ركبها بين جبلين أسودين وكأنها مجرم ينتظر اللحظة الفاصلة في ثواني القصاص والإعدام. عن قصة آلاف الكهول وهم يلمحون الجيل الجديد يركب سيارات الأجرة كي تهرب بهم إلى الشمال.
أكتب اليوم عن صورة الغلاف في مولود أسرتي المفاجئ الوليد حيث الأرض اليباب تبتلع هذه التشققات التي يحدثها الماء حين يذوب في أعماق الأرض الظامئة. أكتب اليوم عن كل صفحة، أو بالنيابة عن كل سطر، في هذه الحكاية التي صورت وجوه آلاف الرجال والنساء وأحالتهم إلى مجرد رقمين في آخر دوائر الاتصال. عن الرياضيات التي لا تخطئ. عن خطبة الجمعة القديمة قبل أربعين سنة حين كانت خطاب الوعظ الوحيد لجماعة كان إيمانها بالله أضعاف الشكوك لقرى اليوم واللحظة التي تستمع في اليوم الواحد لألف ألف خطبة.
هي صورة آلاف الوجوه في هذه القرى الجبلية التي كانت بالصدفة تعيش الزمن الفاصل ما بين زمنين: ما بين زمن البؤس والفقر واليباس وما بين نجائية الطفرة والحداثة التي هربت بجيلها المتوالد إلى مغارب الشمس ومدن – الثريا – إلى الشمال ليبقى – سهيل – وحيداً وكأنه يحرس – القطب الجنوبي – المتجمد في عروقه وفي رفات الكهول وهم مازالوا أحياء يراقبون مشاهد هذا التغيير المخيف، فلا شيء لدى هؤلاء سوى البكاء على الأطلال وغير الدموع على آلاف المودعين وغير الشماتة من كل قوادم الزمن الجديد الذي يشربونه ويأكلونه خلسة حتى لا يتهم بعضهم بعضاً بالتنكر لبقايا اللحى البيضاء القديمة.
أكتبه اليوم وأنا أبكيه، في كل ورقة وسطر من سطور الرواية المدهشة لأنها باختصار ذات صورتي وصورة آلاف المجايلين معي قبل أربعين سنة حين كنا تماماً مثل شخوص هذه الرواية: جيلاً يعيش بين زمنين وكأن – طاغور – يلمحنا ليثبت بالبرهان صدق نبوءته: الزمن أقوى النقاد.
حتى شقيقي الصغير، صاحب أمالي الأرض، لا يشبه شيئاً إلا فصول روايته ولد صالح حين (أقطفت) أمي وبلغ بها اليأس سناً فكأنه من (لزوميات) الزمان والمكان كي يحل مكان المسافرين من إخوانه إلى الشمال. كان صالح لأبي مثل (لعبة تسلية) في نهايات العمر يختطف كل الحب حتى وهو يغني إليه وهو يطوف بالكعبة المشرفة.
كان سلوة هذه الدنيا لأبي حتى وهو يقيم فرائض الدين. كان – صالح – ومازال ضحية للزوميات المكان. أول المملكة بأسرها في الثانوية العامة وأحد ألمع العقول الجامعية ثم يذهب كل هذا النبوغ ضحية للزوميات المكان البعيد، ووطأة إملاءات هذه الأرض السابعة وكنت أخشى أن يودع هذه الحياة بلا مولود يستمطر عقله الذي ما مل من قراءة وكتابة، فإذا به يفاجئني بهذه الصور الحكائية التي لا تشبه شيئاً إلا عيوني وعيونه التي طالما بكت معاً ونحن نعالج بالحرمان بعض ظروفنا التي كدنا أن نهيل عليها التراب حتى لا يكشفها أحد. ومثل كل المؤمنين، لم يكتب أخي فصوله ليجترح من المقدس أو يهزأ بالثوابت أو يكتب هذه القرى الجنوبية بالزيف والضلال. ظل نقياً تقياً مثلما عرفته منذ أن كنا عراة في يد أمي حتى دثرة الورق والحبر.