حينما يفقد الفرد قدرته على اتخاذ القرار فإنه يفقد الثقة بنفسه، وحينما يمارس ضده العنف المادي أو المعنوي فإنه يفقد أيضاً إحساسه بالأمن والأمان مما يجعله منزوياً ومنعزلاً
تؤكد الدراسات الطبية باستمرار على أن الصحة الجسدية للفرد تعتمد بشكل كبير على صحته النفسية، فبقدر ما يكون الإنسان بعيداً عن الاعتلالات النفسية تكون صحته الجسدية أفضل. فلا عجب إذن أننا نسمع عن أمراض يشار إليها في عالم الطب بالأمراض السايكوسوماتية أي الأمراض الجسدية الناتجة أساساً عن اضطرابات نفسية. ولكن، وفي الوقت ذاته، فإن الكثير من الأمراض النفسية لها أيضاً أن تكون نتيجة، مباشرة أو غير مباشرة، لاختلال فيما يمكن أن يشار إليه بالصحة الحقوقية. واختلال الصحة الحقوقية يتجسد في مظاهر عديدة من قبيل تعرض الفرد لظلم أو إهانة أو ضياع حقوقه المادية أو المعنوية. فعندما يشعر الفرد أن حقوقه منتقصة، وأنه في الوقت نفسه غير قادر على المطالبة بها، فضلاً عن الحصول عليها، فإنه حتماً سيصبح ضحية للشعور بالاضطهاد والظلم، الذي يتعمق شيئاً فشيئاً مورثاً اعتلالات نفسية تتطور بالتالي إلى اعتلالات جسدية. لا يختلف في ذلك المرأة أو الرجل و الكبير أو الصغير في الأسرة.
هذه المقدمة مهمة كي أعرض موضوعاً أسرياً أصبح يشغلنا جميعاً باعتبارنا أفراداً نتطلع إلى بناء أسر آمنة خالية من الأمراض الجسدية والنفسية. والحقيقة أن هذا الموضوع حظي باهتمام مجتمعي ومؤسسي جيد في الفترة الأخيرة حيث نظم قسم الخدمة الاجتماعية بمدينة الملك عبدالعزيز الطبية للحرس الوطني ندوة بعنوان الخدمة الاجتماعية وصحة الأسرة في مجتمع متغير وذلك خلال يومي 13-14/5/1431هـ في مدينة جدة طرحت مواضيع مهمة حول صحة الأسرة شملت النواحي الاجتماعية والنفسية والطبية والحقوقية والقانونية، باعتبار أن النواحي الحقوقية لا تنفصم عن النواحي النفسية والطبية في مفهوم صحة الأسرة الشامل. كما أقام برنامج الأمان الأسري الوطني لقاء الخبراء الثالث في الرياض يوم 4/6/1431 لمناقشة العنف الأسري ودور الجهات الأمنية والقضائية في مواجهته.
من أبرز القضايا الحقوقية التي يتعرض لها أفراد الأسرة، والتي أصبحت مؤرقة للمجتمع قضايا العنف الأسري بأشكاله المختلفة وزواج القاصرات والتحرش الجنسي من قبل الأقارب والحرمان من الميراث وضياع الحقوق الأساسية جراء الطلاق التعسفي والحرمان من الأوراق الثبوتية التي يسيّر بها الفرد أمور حياته اليومية. هناك بالطبع قضايا مهمة أخرى يتعرض لها الفرد في المجتمع بشكل عام تؤثر على صحة الأسرة الحقوقية مثل حالة البطالة وعدم قدرة الفرد على الحصول على عمل يعتبر مصدراً لقوته وقوت من يعولهم. إن هذه الأزمات التي غالباً ما يتعرض لها الطرف الأضعف في الأسرة هي سبب رئيس في تهديد الأمن والاستقرار الأسري وذلك نتيجة للممارسات غير العادلة تجاه ذلك الطرف الأضعف وهو المرأة والطفل، ضمن ارتهان الممارسات المجتمعية للأعراف وبعدها عن الأخلاق الفاضلة في أحيان كثيرة.
حينما يفقد الفرد قدرته على اتخاذ القرار فإنه يفقد الثقة بنفسه، وحينما يمارس ضده العنف المادي أو المعنوي فإنه يفقد أيضاً إحساسه بالأمن والأمان مما يجعله منزوياً ومنعزلاً وقد يصل به الأمر إلى أن يصاب بالاكتئاب والإحباط، ويفقد شيئاً فشيئاً احترامه لذاته وتقديره لها ومن ثم قد ينسحب وينزوي ويخلد لدائرة الاكتئاب. وقد يصل الأمر إلى أن يفقد الفرد إحساسه بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه. ولا شك أن التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تؤثر على بناء الأسرة، سواء منها السلبية أو الايجابية هي تحولات كبيرة تشمل تزايد البطالة والانفجار السكاني، وتعليم المرأة وخروجها للعمل، والتطورات التقنية في وسائل الإعلام وغيرها.
ولأننا لا يمكن أن نتوقع للأسرة صحة جسدية سليمة وهي تعاني من اختلالات نفسية، ولأننا لا يمكن أن نتغلب على الاختلالات النفسية دون أن نضمن الصحة الحقوقية لكافة أفراد الأسرة، فإن البحث الحقيقي والجاد للحلول لا يمكن أن يغفل أياً من هذه النواحي المترابطة. وأرى أن الحلول الجادة ينبغي أن تغطي ثلاثة محاور بشكل متوازٍ.
العمل على تنمية السلوك الإنساني الإيجابي في مواجهة العنف، ورعاية حالات العنف الأسري الرامية إلى تَشكيل مجتمع يرفض ويقاوم كل أنواعه، والسعي للحد من أشكال العنف النفسي والجسدي، والجنسي كافة، والعمل على توفير الحماية لكل أفراد الأسرة الواقعين تحت تهديد العنف وذلك عبر توفير الدعم النفسي والصحي والقانوني، والعمل على نشر التوعية الأسرية التي تساعد على الحد من ظاهرة العنف الأسري.
العمل على تكوين وتفعيل جمعيات مدنية تسعى لإصلاح وضع الأسرة، إذ إن الجهود المتناثرة هنا وهناك تظل في حاجة إلى أن تقف وراءها جهود المجتمع برجاله ونسائه، كما أنها تظل في حاجة للغطاء الرسمي الداعم لها خاصة من الجهات الأمنية والقضائية، فالمكسب الحقيقي الذي نتوخاه هو تشكل حركة واعية وقوية للدفاع عن حقوق المرأة والطفل، وبالتالي الدفاع عن حقوق المجتمع ككل.
العمل على علاج المشاكل الحقوقية للشباب والشابات الذين لا يجدون عملاً. إذ تشير الإحصائيات إلى تنامي نسب البطالة بين الشباب والشابات. وقد أظهرت النتائج أن عدد السعوديين العاطلين عن العمل وصل إلى 448547 شخصاً عام 2009 مقارنة بـ 416350، بزيادة أكثر من 32 ألف فرد عن عام 2008. كما أن نسب البطالة بين المتعلمين تثير الحزن هي الأخرى، إذ تشير الإحصاءات إلى أن الحاصلين على درجة البكالوريوس هم الأكثر تضرراً، وتبلغ نسبة العاطلين عن العمل بينهم أكثر من 44 في المئة، كما تتجاوز نسبة النساء العاطلات عن العمل من الحاصلات على درجة البكالوريوس 78 في المئة. فالبطالة والصحة النفسية هما أمران مرتبطان أيضاً بشكل عميق.
إن الممارسات غير العادلة تجاه الطرف الأضعف والمشاكل الأسرية المتفاقمة، وخصوصاً ضمن الطبقات الأضعف اقتصادياً، تحتم الإسراع في وضع مدونة تقنن الوضع الحقوقي للأسرة في إطار من العدل والمساواة المستقاة من روح الشريعة الإسلامية السمحة. إن مدونة الأسرة هي نص قانوني ملزم تلتزم به المحاكم في الدوائر الحكومية يتم تدوينه من أجل تنظيم علاقة الأسرة وفق مبادئ الشريعة الإسلامية، حيث مازالت الحماية القانونية للمرأة تعاني من نقص واضح في مواد القانون والإجراءات المتبعة في تنفيذ القوانين. وإذا ما شئنا بناء مجتمع سليم فإن أولى خطواتنا ينبغي أن تكون بناء ثقافة حقوقية سليمة، فأمان الأسرة هو أمن للوطن.