في كل مرة أجلس فيها أمام التلفزيون أشاهد جموع الشباب الحاشدة في عدة عواصم عربية .

في كل مرة أجلس فيها أمام التلفزيون أشاهد جموع الشباب الحاشدة في عدة عواصم عربية تهتف مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة، أتذكر أبطالا هم أكثر من يستحق مشاهدة هذه الأحداث لأنهم أكثر من ساهم في صنعها. ولكن شاء الله أن يقضوا نحبهم قبلها بسنوات قليلة فقط.
فؤاد زكريا، محمد عابد الجابري، محمد أركون الذين توفاهم الله العام الماضي، وعبد الوهاب المسيري الذي توفي عام 2008 م وآخرون لست أعرفهم ولكن الله يعرفهم، فارقوا الحياة وهم يصارعون أمراضنا الثقافية ويقاومون عللنا الفكرية فلم يمهلهم الموت حتى يروا نتاج كفاحهم ولكن التاريخ لهم يشهد.
عشرات السنين من النضال المسلح بالعلم والشجاعة الفكرية استثمرت في مئات الكتب والمقالات والندوات فأثمرت في ملايين العقول اليانعة المستعدة للتغيير وصناعة المستقبل.
لقد آمن أولئك الأبطال بأن التحررالفكري يسبق أي شكل آخر من أشكال التحرر. فكانت رسالتهم تنويرالإنسان العربي وتوسيع آفاقه وتجديد الفكر العربي الإسلامي وإعادة بنائه وتفكيك آليات القهر وبنى الاستبداد.
وكان نضالهم من أجل تحقيق هذه الرسالة نضالاً محمومًا على الصعيد الفكري والوجداني والمادي. ورغم الصرامة المنطقية والمنهجية العلمية التي تحلّت بها كتاباتهم ومقاومتهم لدواعي اليأس والتشاؤم إلا أن مشاعرالإحباط قد تسربت إلى نفوسهم وتغلغلت في أعماقهم. وهاهم قد استشهدوا دون أن يروا ثمرة نضالهم الفكري بأعينهم.
فؤاد زكريا استهدف مشروعه نشر ثقافة التفكيرالعلمي في المجتمعات العربية والتأسيس لنهضة علمية تقوم على حرية العقل وكشف العقبات التي تقف أمامه في عالمنا العربي من خرافات وأساطير وتعصب وخضوع للسلطة. قاوم بشجاعة كبيرة القوى المعادية للعلم والتفكير النقدي، ولكنه يقول في لحظة يأس: يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكيرالعلمي... وقد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة.
محمد أركون تمثل مشروعه في إعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة نقدية لتحقيق ثورة فكرية تسمح باستيعاب الماضي والحاضر. يقول آن الأوان لفتح الآفاق أمام فكر يستطيع التمتع عن جدارة بالصفتين معًا: فكر إسلامي وعصري ولكن استخدامه لمنهجيات وأدوات بحثية جديدة أدت إلى سوء فهم لدى الكثيرين مما أثار لديه الألم والشعور بالإحباط.
عبد الوهاب المسيري صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية هدف إلى تعميق وعي الإنسان العربي بالأيديولوجية الصهيونية وأشكال التحيز. وقضى حياته في الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية ومقاومة عمليات التسطيح والاستلاب والعجز والخنوع. يتساءل في إحدى مقالاته عن مدى قدرة مصر على قيادة المشروع النهضوي المستند على الهوية العربية ولكنه يجيب عن سؤاله فورًا بالقول: أنا متشائم.
محمد عابد الجابري صاحب مشروع نقد العقل العربي دعا في كتابه المشروع النهضوي العربي إلى التخلص من أيديولوجية الإحباط كشرط لإرادة المستقبل ولكنه يقول في نفس الكتاب وبعدها بعدة صفحات إن العلاقة بين الغرب والوطن العربي ستبقى من نوع علاقة السيد بالعبد... السيد سيد على العبد ولكنه يحتاج إليه ويتوقف عليه في كثير من جوانب حياته.
إن هؤلاء المفكرين العظام رغم تسرب اليأس من تقدم العرب إلى نفوسهم لم يتوقفوا لحظة عن الجهاد الفكري. لقد نجحوا في الارتفاع عن الواقع الثقافي للمجتمعات العربية والنظر إليه من كل الزوايا الممكنة والقراءة النقدية الواعية للأحداث والنصوص ، فساهموا بصورة مباشرة وفعالة في تهيئة ذهنية الإنسان العربي ليس فقط لتقبل التغيير بل لصناعة التغيير. إن ما أحدثه هؤلاء الأبطال في وعينا العربي من ثورة فكرية قد جعل من الثورات الشعبية المتحضرة أمرًا ممكنًا.
إن النضال الفكري وإن كان سابقا للنضال السياسي إلا أنه يجب أن يرافقه ويلازمه بل ويتقدمه أيضًا: نقدًا و تحليلاً وتقويمًا واستشرافًا. إن قيادة النضال الفكري لكافة الممارسات النضالية ومساءلته المستمرة للأحداث والأشخاص تضمن الحصول على المعرفة الصحيحة والضرورية من أجل التحرر الحقيقي المأمول. لقد علّمنا هؤلاء الأبطال شهداء التحريرالعقلي أن الله لا يحرر قومًا حتى يحرروا أنفسهم.