لقد تكشف للذين ساورهم الوهم بعدالة الموقف الأميركي ونزاهته، زيف دعوات إدارة أوباما لاحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير، وازدواجية فاضحة في المعايير، وتناقض في السياسات المعلنة
وسط انهماك العرب جميعا شعوبا وقيادات، بالعواصف العاتية التي تجري من حولهم في عدد من الأقطار العربية، اجتمع مجلس الأمن الدولي في العشرين من الشهر المنصرم لمناقشة مشروع عربي بإدانة الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومارست الإدارة الأميركية قبل موعد الاجتماع جهدا كبيرا لإقناع رئيس السلطة الفلسطينية، السيد أبو مازن بالتخلي عن المشروع. والأنكى من كل ذلك، أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما لم يتردد في استخدام سياسة العصا، في اتصال هاتفي بالرئيس الفلسطيني، مهددا بقطع المساعدات المالية السنوية التي تقدمها بلاده إلى السلطة، في حالة تمسكه بتقديم المشروع إلى مجلس الأمن.
لقد أيدت 14 دولة من أعضاء مجلس الأمن الدولي الـ15 مشروع القرار العربي، وتصدت له الولايات المتحدة بمفردها، وكان لها ما أرادت. وكان ذلك دليلا آخر على عبثية المراهنة على صدورأي قرار إيجابي لمصلحة الحقوق الفلسطينية، بإدانة غطرسة الكيان الصهيوني، وخروجه السافر على المواثيق والمبادئ الدولية عن مجلس الأمن، ضمن المعطيات الراهنة.
لم تحل موافقة أغلبية أعضاء مجلس الأمن على المشروع العربي، دون هجمة الإدارة الأميركية عليه. لقد قررت استخدام حق النقض (الفيتو)، وحالت دون صدور قرار أممي يدين الممارسات الإسرائيلية.
حدث استخدام الفيتو الأميركي، وسط انهيارات كبرى في النظام العربي، شملت أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان، وانشغال بما يجري على الساحات العربية، عبر عن ذاته، في عدم التفات أجهزة الإعلام العربية المقروءة والمرئية، للتداعيات التي نتجت عن الانحياز الأميركي على مجرى الصراع العربي – الصهيوني، وحرمان الفلسطينيين من موقف عربي تضامني تجاه الفيتو الأميركي.
وليس من شك، في أن إدارة الرئيس أوباما قد كشفت باستخدامها لحق النقض، عن انحيازها الكامل للكيان الغاصب. كما كشفت زيف الوعود التي أطلقتها هذه الإدارة غداة تسلمها لسدة الحكم، وبشكل خاص الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس الأميركي أثناء زيارته للقاهرة، والذي وعد فيه بالتزام سياسة نزيهة ومتوازنة تجاه القضايا العربية.
لقد تكشف للذين ساورهم الوهم بعدالة الموقف الأميركي ونزاهته، زيف دعوات إدارة أوباما لاحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير، وازدواجية فاضحة في المعايير، وتناقض في السياسات المعلنة.
لقد أعلن الرئيس الأميركي، أوباما في بداية دورته الرئاسية، عن رفضه لسياسة الاستيطان الإسرائيلي، في الأراضي المحتلة، في جميع أنحاء الضفة الغربية، بما في ذلك مدينة القدس، وطالب القادة الإسرائيليين بوقفها. وأوضح أن ذلك يمثل شرطاً ضرورياً لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. لكنه أمام تعنت إدارة حكومة نتانياهو، تراجع عن موقفه، ودعا الفلسطينيين إلى مواصلة المفاوضات مع الصهاينة، والقبول بسياسة الأمر الواقع.
توقع الكثيرون أن تمارس الإدارة الأميركية الحالية، سياسة مختلفة عن سياسات سابقاتها من الإدارات، تضغط بها على الصهاينة للاعتراف بالحقوق الفلسطينية. لكن ما تكشف لاحقا، وبرز بشكل جلي من خلال استخدام الفيتو، قد أكد بما لا يقبل الجدل، تماهي سياسة هذه الإدارة مع سياسات الإدارات الأميركية السابقة، في الانحياز الكامل للكيان الغاصب، والدفاع عن مواقفه في الصراع مع الفلسطينيين والعرب.
لقد فاجأ الموقف الأميركي السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تصورت إمكانية التزام إدارة أوباما بموقف نزيه، يجعلها مؤهلة للعب دور الوسيط، في التسوية مع “الإسرائيليين”، باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ولم يعد بالإمكان التعويل الآن على استمرارالمفاوضات بين مختلف الفرقاء، من أجل التوصل إلى تسوية سلمية عادلة، تضمن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
إن استخلاص الدروس من هذا الحدث، يعني أن على السلطة الفلسطينية، ألا تعول كثيرا على تحقيق صبوات الشعب الفلسطيني في الحرية والانعتاق من خلال المفاوضات، بدعم من الراعي الأميركي. لا بد من إيجاد بدائل وخيارات أخرى، تجبر “الإسرائيليين” والأميركيين على الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. خيارات تعتمد تصليب عناصر الوحدة بين الفلسطينيين، وتعمل على إعادة توحيد الضفة والقطاع، وتحقيق المصالحة الوطنية، بين فتح وحماس. إن ذلك يعني فتح الأبواب مشرعة لكل الخيارات، بما في ذلك خيار المقاومة المسلحة، التي كفلتها الشرائع والدساتير وميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يؤكد حق الشعوب المحتلة في الكفاح بمختلف الوسائل والأدوات من أجل انتزاع حريتها واستقلالها.
آن الأوان أيضا للسلطة الفلسطينية أن تعيد النظر في سياساتها، وأن تركزعلى عمقها العربي، الرسمي والشعبي، لدعم الكفاح الفلسطيني. ولا مناص من إعادة تقييم شامل لمرحلة أوسلو وما تلاها من مفاوضات عبثية امتدّت عشرين عاماً. ولن يكون بالإمكان تحقيق ذلك إلا بعد ترتيب البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام والعودة إلى الوحدة، وفق برنامج وطني يؤكد على الثوابت الفلسطينية، وينتهج سياسة جديدة بعيدة عن المساومة والتفريط في مصالح الشعب الفلسطيني، أوالمراهنة على مواقف عادلة ونزيهة للإدارة الأميركية.
ولا مناص من تحقيق التلاحم العضوي بين الفلسطينيين والعرب. وخلق مناخ من التضامن العربي، للتصدي للغطرسة الصهيونية، وإعادة تقييم المبادرة العربية للسلام في الشرق الأوسط، انطلاقاً من وعي مخاطر المشروع الصهيوني، على الأمن القومي العربي، وعلى حقوق الفلسطينيين.
إن الاستخدام الأميركي المفرط لحق النقض، حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، لا يطال السلطة الفلسطينية وحدها، بل هو عدوان صارخ على الشعب الفلسطيني وعلى العرب جميعا، فهل يقدم الجميع على اتخاذ مبادرات عملية بحجم هذا التحدي؟!