بدأ الشاب الطموح يحرق الزمن وشارك في أول مسرحية نقلها التلفزيون عن قضية فلسطين
أنا صاحب بطاقة أحوال مزورة هكذا أخبرني الإعلامي الفنان الرائد عبدالعزيز الحماد قبل عامين من اليوم حين استأذنته في دخول ذاكرته والتجوال فيها لكتابة بروفايل قريب جدا منه. ما تزال ضحكته العفوية ترن في سمعي بعد قوله عبارته تلك رغم ثقل العلاج الكيماوي الذي خضع له منذ 2007م، وتابع مازحا ـ رحمه الله ـ أتعلمين لماذا يا حليمة؟! لأن مكان الولادة المسجل فيها غير صحيح، فأنا من مواليد 1/7 ونصف الشعب السعودي مولود في هذا التاريخ، كل من يسأله عن عمره يجيبه بـ لا أعرف لكن ذاكرته تمتلئ بمخزون كبير من صور الطفولة التي لم تخلُ من المعاناة، بدأها في الرغبة مسقط رأسه وسط الزلفي، ثم انتقل مع أسرته وهو صغير إلى الرياض، حيث يعمل والده معلم بناء، لكنه سريعا أصبح يتيما وهو في الخامسة. التجوال في سواليفه مفعم بالحياة؛ كصوت فيروز الذي أحبَّه هو في أغنيتها يا داره دوري فينا.. ظلي دوري فينا.. تَـ ينسوا أساميهم.. وننسى أسامينا كلماتها كانت تعني له شيئا؛ وأتذكر تعليقه عليها تأملي هذه الأغنية راااائعة؛ بسيطة لكنها عميقة جدا في فلسفتهاهكذا إذا؛ وكأنها غيمة الذكريات على عبدالعزيز تعيده لصورته يتيما راعيا للأغنام بعد انتقاله مع والدته وأخيه الأكبر عبد الله وأخته الصغرى حصة إلى (مُراد) حيث يسكن أخواله المزارعون في قصر سمحان، وهناك التصق بالطبيعة فأكسبته نقاءها، وعندما فتحت الابتدائية في قريته سجله أخواله في الصف الثاني، ولم يحتج للبدء من الصف الأول؛ فأخواله اهتموا بتحفيظه القرآن الكريم. إنه سابق عصره، وصادق مع نفسه جدا هكذا وصفته الإعلامية القديرة سلوى شاكر، وهذا ما تشعر به حين تتحدث معه ـ رحمه الله ـ وهو يحكي عن سطوح الابتدائية الذي جمع التلاميذ للطابور واللعب في الصف الثاني؛ وبدأت بذرة التمثيل داخله خلال الإذاعة الصباحية، لكن متى كانت لوحته الأولى (عرفات) ؟! أجابني حينها في الصف الثالث الابتدائي، اكتشف مدرسي عصمت المصري موهبتي، وأهداني علبة ألوان، فرسمت (عرفات) ثم انتقل إلى شقراء ليكمل الصف الخامس؛ وبعدها إلى قرية أخرى ليكمل الصف السادس، ومن قرية لأخرى كي يكمل دراسته حتى دخل معهد إعداد المعلمين للابتدائية؛ وأصبح مدرسا فور تخرجه عام 1962م. بعد عام من التدريس افتتح معهد التربية الفنية، فكان ضمن 18 طالبا فيه؛ وفوجئ بأستاذه المصري في الابتدائية عصمت مدرسا له في المعهد أيضا، وأصبحت دفعة الحماد أولى الدفعات التي تخرجت عام 1967م، وصار مدرسا وفنانا يطمح أن يكون أحد رموز الريادة التشكيلية في الوطن. رغم انشغاله بالريشة فترة دراسته بالمعهد لم يتوقف عبد العزيز عن النشاط المسرحي الذي أحبه، وكان أبرز المشاركين لأنشطة المعهد المسرحية، وأول من وضعه على مبادئ المسرح الحقيقية أستاذه العراقي إبراهيم جلال، ثم العراقي محسن العزاوي الذي قدم معه في المعهد أول أعماله المسرحية حضرها الجمهور عام 1969م. عبد العزيز ـ رحمه الله ـ خلال حكاية العمر هذه دندن أغنية عطني المحبة كل المحبة عطني الحياة..إلخ من كلمات صديقه الأمير بدر بن عبدالمحسن التي غناها الراحل طلال مداح الصوت الذي أسره؛ وكأن في دندنة قلبه قصة لم يروها، فسألته حينها من هي يا أستاذ عبدالعزيز؟ أجابني حينها بعمق إنها سلوى؛ هي أول حب وآخر حب في حياتي أطلق اسمها بعاطفة متأملة لذاكرة وصل امتدادها إلى أكثر من ثلاثين سنة في حياة تشاركاها، أنجبا خلالها أربعة أبناء وبنتين، حتى أصبحا جدين، واستمر عطاؤهما الأسري وتدفق في حياتهما العملية معا بإبداع وتناغم، وحين سألت سلوى قالت عبد العزيز ساعدني كثيرا وشجعني لأنجح في الإعلام فيما يقول هو إنها رائعة. وبدأ الشاب الطموح يحرق الزمن واستطاع المشاركة في أول مسرحية سعودية نقلها التلفزيون السعودي؛ حملت عنوان (ثمن الفداء) عن قضية فلسطين، وبدأ يرسخ قدميه أكثر فأكثر في المسرح والتلفزيون والإذاعة فيما استمر مدرسا لما يزيد عن عشرين عاما، رغم إمكانية تفرغه للإعلام، أما مسلسل (عمارة العجايب) الذي رشحه حسن درير ولطفي زيني للتمثيل فيه بتونس كان سببا في تعرفه على عالم مختلف عن الصحراء التي عرفها، وسرد قصته رحمه الله فيها بمرح كان ذلك عام 1971م، مكثت في تونس أربعة أشهر (ما فكيت) فيها الكرفتة التي ربطها لي أصدقائي في الرياض، واشتريت بدلة سوداء من البطحاء ويتابع أول مرة في حياتي أطلع طائرة، وكان علي أن أتوقف في بيروت يوما لأتابع رحلتي لتونس. وفوجئ الحماد عندما وضع قدميه في مطار بيروت بعالم آخر، يقول لم أتوقع مشاهدة عالم ليس به عقدنا الاجتماعية؛ كنتُ أول مرة في حياتي أسكن فندقا، شعرت بفخامته؛ سرير ولمبة بجانبه، فقد كنتُ أنام على طراحة فوق سطوح بيتنا بالرياض، واكتشفت بعد زمن أن هذا الفندق كان رديئا جدا. وفي عام 1974م رُشح أبو حسام من قبل وزارة المعارف لبعثة دراسية كي يحصل على البكالوريوس والماجستير في أمريكا، وأقام هو وزوجته وأطفاله في مدينة بورتلاند سبع سنوات، تمكن خلالها من دراسة المسرح والفن التشكيلي، وحصل على ماجستير في التصوير والإخراج. قبل سفره إلى أمريكا كان عضوا مؤسسا لجمعية الثقافة والفنون، يقول عن ذلك أنا من كتب خطاب تأسيس الجمعية، والتقيت بالأمير فيصل بن فهد وتفاهمت معه، وقمت بتصميم شعارها وبسبب البعثة سافرت وتركت الزملاء يكملون المشروع، وعند عودتي وجدت واقعها مخيبا للآمال سألته: أهي صراحتك حول أنشطتها لم تُكرم منهم رغم أنك من الرواد المؤسسين؟ قال بمرارة مؤكد ، ولكن مع غياب تكريمه داخل الوطن، جاء تكريمه خارجيا ضمن رواد المسرح السعودي والعربي من جامعة الدول العربية. عاش متحديا المرض حتى إن طبيبه اندهش من تصالحه معه، ظلّ ودودا بشوشا مفعما بالحياة رغم إحاطة الموت به في مرض عضال؛ بقي متمسكا بعقارب الساعة يركض معها دون تعب، بعد أن عاش مع الناس صوتا صادحا كل صباح في الإذاعة عبر سواليف الناس التي وصلت لـ 1500 حلقة كتبها وأخرجها بنفسه، إنه باختصار قادم من حيث لا يأتي أمثاله سوى مرة واحدة فقط، لماذا ؟! لأنه اختار حياته؛ رافضا تعليب الآخرين لمواقفه؛ فصار علامة تاريخية فارقة في حياتنا رحمه الله تعالى وألهم زوجته سلوى وأبناءهما الصبر والسلوان.