الحكم الدكتاتوري في ليبيا أقام حولها ستاراً حديدياً من الصمت والعزلة، أضخم وأعلى من الجدار الحديدي، الذي بناه الاتحاد السوفيتي حول أوروبا الشرقية

-1-
يبدو أن ما يحصل في العالم العربي الآن، يذكرنا بما حصل في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. حيث تسقاطت الأنظمة الواحد تلو الآخر. فالثورة الشعبية تشتعل اليوم في ليبيا، منذ 17 /2 /2011 بعد 42 عاماً من الحكم الفردي الدكتاتوري، وعزل ليبيا عن العالم. فالحكم الدكتاتوري في ليبيا أقام حولها ستاراً حديدياً من الصمت والعزلة، أضخم وأعلى من الجدار الحديدي، الذي بناه الاتحاد السوفيتي حول أوروبا الشرقية. فالعرب وغير العرب، لم يكونوا يعرفون تماماً، ماذا يدور في داخل ليبيا. وكل ما كنا نعرفه عن ليبيا، كان عن طريق الفضائح الإرهابية، التي كان يقوم بها نظام الحكم، أو ما كان يقوم به القذافي من حركات بهلوانية في المؤتمرات الدولية. وكان مال النفط الليبي كالرماد يُذرُّ في عيون الإعلام العربي والعالمي، الذي كان ينشر بعض فضائح القذافي ليس من باب النقد السياسي البنَّاء، ولكن من باب التندر والسخرية السياسية.
-2-
ويبدو بعد خطاب القذافي في(22 /2 /2011) أن ليبيا ستتحول - إذا لم يتدخل المجتمع الدولي عاجلاً - إلى صومال ثانية، مع تهديد القذافي بنسف آبار البترول، وتوقف الإنتاج (1.8 مليون برميل يومياً). وأن المعركة في ليبيا ستكون أشد ضراوة من معركة تنحية كل من الرئيسين زين العابدين، ومبارك. فهذان الرئيسان فهما طبيعة المرحلة، وما تحمله رياح العصر من تغيرات، فسارعا إلى التنحية، قبل أن تُسفك دماء كثيرة بريئة. ويبدو أن البيئة المصرية المتسامحة، ومجتمعها المدني، وتجذَّر الطيبة، وحبِّ السلامة والسلام، قد أدى إلى قرار مبارك بالتنحية.
كذلك فقد غلبت في البيئة التونسية – كما يقول محمد الحداد- روح التسامح، والانفتاح، والعقلانية، نتيجة لاتصال تونس المبكر بالغرب والعالم الحديث، وإلى أن تاريخ تونس، يبدأ بقرطاج منذ 550 ق.م
-3-
ويبدو أن القذافي في خطابه المتشنج، في (22 /2 /2011) لبدء الزحف المقدس، كان يعتمد على التكوين القبلي في ليبيا – وهو ما لا يُوجد في مصر وتونس – وكأي زعيم قبيلة (قبيلة القذاذفة)، ادّعى بأنه زعيم أممي. ولا ندري ما معنى هذا المصطلح الفريد المضحك في قاموس السياسة الدولية؟ وكان قد ادّعى من قبل أنه ملك ملوك أفريقيا. ولكن لا أحد يتنبأ بنهاية المهزلة/المأساة الليبية.
فهل أن ما يحدث الآن في العالم العربي نتيجة نكبة 1948 الفلسطينية؟ أو نتيجة لهزيمة 1967؟ أو نتيجة للخيبات العربية المتلاحقة؟ أو نتيجة لغزو العراق، وخلع صدام حسين وإعدامه؟ أو نتيجة لـ (استغوال) الدكتاتوريات العربية، وانتشار الفساد والطغيان؟ أو نتيجة لانفصال الجنوب السوداني عن شماله؟ أم أن هناك أسباباً أخرى؟ أم أن هذه الأسباب وأسبابا أخرى مجتمعة، هي وراء هذا الانهيار السريع في بعض نظم الحكم العربية.
-4-
لفت نظري، في خطاب التهديد والوعيد، الذي ألقاه سيف الإسلام القذافي (21 /2 /2011) قوله إن ليبيا ليست مصر، أو تونس. وهو قول صحيح، فيما لو علمنا أن تونس – مثلها مثل مصر – ذات تراث حضاري تنويري عريق، ليس في ليبيا مثيلاً له. فقيم الحرية، والديموقراطية، والحداثة، والمجتمع المدني، متأصلة تأصيلاً عميقاً في المجتمع التونسي. والمجتمع المدني التونسي، الذي وضع أسسه الراحل بورقيبة، كان له الأثر الكبير، فيما تحقق في تونس حتى الآن. وتمثَّل هذا المجتمع أول ما تمثَّل بإرساء قواعد الحداثة السياسية. ولكن علينا أن نعترف، أن الوفاق النسبي التعددي، لم يتحقق في عهد بورقيبة، أو في عهد زين العابدين. كما لم تكن المراقبة الصارمة على أداء الحكومات المتعاقبة، قد تمَّت بالفعل، وذلك نتيجة لاحتكار الحزب الحاكم السلطة، وعدم توسيع دائرة المساهمة، في العمل السياسي. والذي حذَّر منه مفكرون تونسيون كثيرون، ولكن كان هناك وقرٌ في أذان الحاكمين في مصر وتونس. وسُدت عن سماع الحق والحقيقة. فحدث الطوفان.
-5-
وكما قرأ الشباب المصري رواية عودة الروح، التي نشرها توفيق الحكيم عام 1933. وتمثَّل شباب 25 يناير شخصية البطل محسن في هذه الرواية، كما قرأوا أدبيات المصلح الشيخ خالد محمد خالد، وحواره الفريد والجريء مع عبد الناصر 1962 ، في اللجنة التحضيرية، حول ضرورة تطبيق الديموقراطية، كما نشرها في كتابه (دفاع عن الديموقراطية، 1985 ). كذلك فقد قرأ الشباب التونسي الذي ثار يوم 18 /12 /2010 بإمعان شديد، أن قضية الحداثة السياسية، التي طرحها محمد الحداد في كتبه، ليست بذخاً فكرياً، أو كمالية سياسية، بل هي ضرورة أساسية، لأنها الضامن لإيجاد الحلول، أمام التحديات العالمية الصعبة، التي تواجهها دول وشعوب العالم الثالث، والعالم العربي خاصة. صحيح أن الوضع السياسي في العالم العربي الآن، أفضل مما كان في العصور السابقة. ولكننا لا نعيش الآن في بداية القرن العشرين، حيث ما زال العالم خارجاً لتوه من الحرب العالمية الأولى. ولكننا نعيش في بداية القرن الحادي والعشرين، وفي بداية الألفية الثالثة.
فهل سنشهد في هذا القرن ميلاد الديموقراطية العربية الحسناء، أم سينتج عن هذا المخاض البركاني دكتاتوريون جُدد؟