الدرس الأول الذي يمكن قراءته في السبورة المصرية هو ضرورة الإيمان بأن تعريف الوعي بات متغيرا ومتقلبا ولا يمكن قراءته عبر التقارير الاستخباراتية وحجم التأثر بالغرب وبحياة الحريات والمدنيات، لم يعد أمرا يمكن حصاره عبر إغلاق مواقع الإنترنت أو الرقابة الإعلامية
في الواقع، يبدو أن ما حدث في مصر لم يكن نبوغا ولا تقدما، بقدر ما كان نوعا من الاحتياج والخيار الأوحد الذي لا يوجد بديل عنه، وإلا فما هو السيناريو الذي يمكن أن يرسمه أي مواطن عربي أو مصري لمصر بعد خمس سنوات فيما لو بقيت تحت حكم الحزب الوطني؟
لا تدرك الأحزاب التي تحكم دولها بذهنيات ثابتة حالة التغير التي تطرأ على الجيل من حولهم، وحتى الاعتماد البدائي لتلك الأحزاب والسياسات على تقارير الاستخبارات كانت غالبا ما تتوقف عند الحلول الأمنية، ومحاولة تشكيل ذهنية الشعب من خلال وسائلها التعليمية والإعلامية، وهي لا تدرك أيضا أن انفجار العصر المعلوماتي جعل من المؤسسات المحلية المعنية بتشكيل أذهان الناس عاملا ضعيفا وثانويا أمام الوعي الجديد الذي تحمله الاتصالات الكونية الحديثة.
بل لا يتوقف عجزهم عن فهم الواقع في الداخل، ولكنه يمتد للخارج أيضا، فحتى التخويف بصعود القوى المتشددة إلى السلطة في حالة تزحزحت حكومات العسكر، واللعب على أوتار القلق العالمية من ذلك إنما كان يجدي نفعا في زمن مضى، والولايات المتحدة الأمريكية والعالم الأوروبي لم يستمع إلى كثرة التحذيرات التي أطلقتها الخارجية المصرية قبل أن يتنحى الرئيس في هذا الصدد.
ما الذي تبقى إذن؟ يبدو أن المعادلة داخلية تماما، إلا أنها خارجية أيضا لا على مستوى الدعم أو التنظيم وإنما على مستوى عالمية الأدوات التي أدار بها الشباب المصري معركتهم، تلك الأدوات التي جعلت كل العالم يتأثر ببعضه فيما يشبه المحيط الواحد، وفيس بوك وتويتر ليسا مجرد موقعين على الإنترنت ولكنهما لغة وفكر جديد في التواصل والنقل والتفاعل، وقد ساعدت هذه المواقع أولا على ما يمكن اعتباره حالة الوعي الأولى، إذ تحول الاحتجاج لدى مختلف فئات الشعب من كونه حالة نفسية ليصبح حالة تعبيرية، أي من كونه مجرد إحساس ليصبح صوتا ولغة، وهي الخطوة الأولى من خطوات البحث عن حل.
تصاعدت تلك اللغة حتى اتحدت مطالبها على أمر واحد، وهو تنحية الرئيس، ورغم ما تردد على ألسنة المحللين من أن استجابات الحزب الوطني لمطالب المعتصمين في ميدان التحرير تأتي متأخرة، إلا أن الواقع أثبت أن للمحتجين مطلبا واحدا وهو رحيل الرئيس، ولم يكن لذلك المطلب سوى أن يتحقق، ذلك أن ما يحتاجه الشارع هو طمس المفارقة التي يعيشها بين واقع مترد وبلد يمكن أن يعيش فيه المواطن بصورة أفضل، وبين نظام يعلن نفسه على أنه جمهوري ديموقراطي بينما يعيش الناس واقعا أمنيا وقانونا للطوارئ، ولذلك فكل الدول التي تقدم ذاتها كما هي وتقدم واقعها السياسي كما هو ستكون - غالبا - في مأمن من تلك المفارقات الشنيعة التي تتحول إلى سؤال بديهي عن مفارقة بلد ديموقراطي وفي ذات الوقت يتم فيه الحديث عن التوريث.
تلك المفارقة السياسية والاقتصادية لا يمكن بحال من الأحوال تغييرها من خلال قرار أو تعيين نائب، لأنها بحاجة إلى إعادة تعريف الكيان الحاكم والخروج من سلطة الحزب الواحد. وبالتالي فمهما كانت القرارات والإجراءات الرامية إلى تهدئة غضب الشارع المصري إلا أن مطلبا لا يمكن التراجع عنه وهو تنحي الرئيس.
لقد تحول النظام والمؤسسات إلى عبء على حياة الناس، وتحديدا على الجيل الجديد من المواطنين الشباب وذلك ما يفسر كونهم أول الذاهبين إلى ميدان التحرير، حينما بات وعيهم متقدما على وعي المؤسسات والرؤى السياسية والحزبية التي تدير واقعهم، وبالتالي كان لا بد للمواجهة أن تقع بين هذين المستويين المتنافرين.
على المستوى السياسي فالدرس الأول الذي يمكن قراءته في السبورة المصرية هو ضرورة الإيمان بأن تعريف الوعي بات متغيرا ومتقلبا ولا يمكن قراءته عبر التقارير الاستخباراتية وحجم التأثر بالغرب وبحياة الحريات والمدنيات، لم يعد أمرا يمكن حصاره عبر إغلاق مواقع الإنترنت، أو الرقابة الإعلامية.
إن الحديث عن التدخل الأجنبي كمحاولة لضرب الثورات أو التشكيك في وطنيتها، أمر يمكن الاقتناع به ولكن من زاوية جديدة للغاية، فالتدخل الأجنبي لم يعد تدخلا سياسيا ولا عسكريا، لقد أصبح تدخلا ثقافيا معلوماتيا، لا ينطبق عليه أصلا أن يوصف بأنه تدخل فالعالم الجديد الذي أنتج وسائل الاتصال الجديدة، أنتج كذلك وعيا جديدا هو جزء من وعي مشترك يتفاعل فيه العالم، و مخترعو الفيس بوك وتويتر ويوتيوب ليسوا موظفين في البيت الأبيض لكنهم شباب بعمر آلاف الشباب الذين باتوا ثماني عشرة ليلة في ميدان التحرير.
إن ما تحتاجه المنطقة الآن هو أن تدعم الكيانات المستقرة كل العوامل التي تعين على تقدمها والحفاظ على استقرارها، وقد أثبت الواقع الآن أن الصراعات والأفكار الأيديولوجية والقيم المتشددة لا تمثل هاجسا للشارع ولكنها مجرد صراعات مبتذلة تدور فيما بين النخب، أما الشارع فهو يطمح لحياة تقوم على الحرية والحقوق والمدنية.