ماذا فعل المصريون ليستحقّوا هذا التأخير الفادح في نيل حقوقهم الأولية من الحياة الكريمة والمجتمع العادل؟ وماذا فعل الكنديون ليستحقُّوا هذا الترف السياسي الذي تختلف فيه الحكومة مع الشعب حول شجرة؟

خلال الأسبوع الماضي، خرجت مظاهرتان في شوارع العاصمة الباردة أوتاوا. الأولى تركزت حول السفارة المصرية حيث طالب فيها المتظاهرون من المغتربين بسقوط النظام المصري واستعادة حقوق الشعب المسلوبة. والثانية حدثت غير بعيد من مقر السفارة المصرية حول مكتب محافظ مدينة أوتاوا، وطالب فيها المتظاهرون من المواطنين بإيقاف قطع الأشجار في منطقة (كاناتا) ونقل الأعمال الإنشائية إلى مكان آخر. وبطبيعة الحال، غطّى إعلام المدينة المحلي أحداث المظاهرتين معاً بشكل لا يمكن معه تجنّب المقارنة الذهنية التلقائية بين شعب ما زال يقاتل من أجل حقوق الإنسان، وشعب تجاوز ذلك وراح ينافح عن حقوق الأشجار.
ماذا فعل المصريون ليستحقّوا هذا التأخير الفادح في نيل حقوقهم الأولية من الحياة الكريمة والمجتمع العادل؟ وماذا فعل الكنديون ليستحقُّوا هذا الترف السياسي الذي تختلف فيه الحكومة مع الشعب حول شجرة؟ لماذا لم تشفع خمسة آلاف سنة من الحضارات المتعاقبة على أرض مصر لشعبها ليقطف ثمرة هذا التراكم الحضاري؟ وكيف استطاع الكنديون في ظرف ثلاثمئة سنة فقط أن ينتزعوا اعتراف الأمم المتحدة بها كأفضل دولة للعيش في العالم؟ لماذا هم المصريون في كندا مهاجرون ومنفيّون؟ ولماذا هم الكنديون في مصر سيّاح ومترفون؟ يالهذه الأسئلة التي مهما حرصنا أن نجعلها تحفيزية وهادفة، نجدها تنفرط من أذهاننا وتتحول إلى سياطٍ واقعية لجلد الذات. هل يمكننا بالفعل أن نستلهم التغيير دون أن نعقد المقارنات؟ هل يمكن أن نلمس الذرى قبل أن نلعق الحضيض؟ وإذا فعلنا هذه وتلك، ترى هل ثمة أمل؟
نعم، وذلك ما يكشفه لنا التاريخ لا الأحلام. وفي الحقيقة، أن العمق الحضاري لمنطقة لا علاقة له بمآلاتها وازدهارها. ولو كان الأمر كذلك، لكان اليهود والمسيحيون والمسلمون يعيشون عرساً حضارياً رائعاً في فلسطين. ولكانت دمشق وبغداد والأقصر ثلاث جنائن من الديموقراطية والرغد والحب والسلام. ولكانت أثينا مفخرة الاتحاد الأوروبي وليست مشكلته الاقتصادية الأفدح حالياً. ولكان الأميركيون يجوزون الصحراء في محاولة للتسلل إلى المكسيك عكس ما هو الحال عليه اليوم. ولكن نشرات الأخبار تحدّثنا بغير ذلك، وبأن المناطق الأعرق حضارياً في العالم تكاد تكون الأكثر اضطراباً فيه اليوم. ويبدو أن العمق الحضاري لم يمنح المناطق القديمة أكثر من سلسلة من الأمراض المجتمعية الوراثية، صاحبتها قرون من التاريخ المزدوج، والقهر المنظم، والتهافت الإنساني، صاغت معاً مجموعة كبيرة من الأمراض الاجتماعية المتشابكة بشكل يجعل من المستحيل تتبع جيناتها الوراثية، وتفكيك أعراضها المتداخلة. والحقيقة أيضاً، أن كثيراً من مفكري التاريخ يرون أن النهضة التي بزغت في أميركا الشمالية كانت بسبب أن الانتقال من القارة العجوز إلى العالم الجديد لم يكن انتقالاً مادياً فقط، صنعته السفن العابرة للمحيط، بل رافقه انتقال ذهنيّ من قبل المهاجرين الذين هاجروا من أجل حياة أفضل. هذا الانتقال الذهني مهم وجوهريّ من حيث يضع (الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية) على رأس هرم الأولويات الاجتماعية، وهو ما يختلف جذرياً عن أولئك الذين لم تضطرهم الظروف إلى اتخاذ هذا القرار الصعب، فظلوا في أوطانهم منقسمين حول ترتيب هرم الأولويات، بين من هم يولون (الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية) هذه المنزلة في رأس الهرم فعلاً، وبين من يحملون فوق رؤوسهم هرماً مختلفاً تماماً قائماً على صراعات فكرية أو تفوّق طبقيّ أو نماذج أيديولوجية لمجتمع مثالي ما. النتيجة، هي خليطٌ من الأولويات المتضاربة خلفه المهاجرون وراءهم في أوروبا مقابل إجماع تام على العدالة وجودة الحياة في القارة الجديدة، مع اختلافات حول طريقة تحقيق ذلك بطبيعة الحال، وهي اختلافات تسببت في إسالة كم هائل من الدماء، ولكنه أقل بكثير من الدماء التي سالت في أوروبا خلال القرن العشرين وحده.
قد يختلف الباحثون حول تفسير العلاقة بين العمق الحضاري والمآلات الحالية، فالعلوم الاجتماعية ذات العلاقة تحمل تفسيرات متضاربة أحياناً، والظروف السياسية التي حلّت ببلد ما ليست مثلها في بلد آخر. ولكن الواقع يشهد أن العلاقة ليست إيجابية في أغلب الحالات. فالهند تعيش في ظرفٍ حضاريّ صعب رغم تاريخها القديم، والصين لتوها تنهض من غيبوبة حضارية طويلة رغم حضارتها العريقة. بينما تزدهر دولٌ يتكون شعبها من مجموعة من الأقليات المهاجرة كسنغافورة وأستراليا، بل وتسود العالم كله دولةٌ كانت قبل أربعمئة سنة فقط قفراً خالياً إلا من قبائل بدائية من السكان الأصليين. وإذا عدنا إلى كندا التي كانت قبل قرنين من الزمان مقبرة ثلجية لا يصبر على شتائها إلا مغامر مجنون إلى كندا اليوم التي تستقبل الملايين من طلبات الهجرة من كل أصقاع العالم الدافئة.
ولكن أغلب دول أوروبا تحمل عمقاً تاريخياً كبيراً، ويتمتع أغلبها اليوم بظروف حضارية راقية. هل يمكن أن نعزو نهضة أوروبا اليوم إلى تاريخها العريق؟ لماذا لم تتحقق هذه المعادلة في دول أخرى أكثر عراقة وأقدم عمراً؟ تفسيرات أخرى للحالة الأوروبية تعزو هذه المفارقة إلى اليقظات الشعبية. فالقارة الأوروبية تعرضت في تاريخها الحديث لصفعات تاريخية مؤلمة جداً، أكل بسببها الألمان لحاء الأشجار من شدة الجوع والفاقة، وسالت من مقاصل باريس أنهار من الدماء حتى تسربت من عتبات الأبواب، وتحولت لندن إلى أنقاض خاوية مرتين في تاريخها. هذه الصفعات التاريخية تشكّل في الوجدان الحضاري للأمم ما يشبه الخط الفاصل بين ماضيها الذي تسبب بشكل أو بآخر في هذا الحد من الألم وبين حاضرها الذي لا يمنح خيارات كثيرة، وهو خط يعمل بمثابة الضمير الانتقائي الذي يسمح للأمة بأن تستورد من ماضيها ما ينفعها في حاضرها فقط، وتبقي ما دون ذلك محصوراً في كتب التاريخ.
عوداً على المظاهرتين اللتين قدحتا المقالة. الطريف أن كلاً من العمق الحضاري المصري والحداثة العصرية الكندية لم يلق بظلاله على نتائج مظاهرتي أوتاوا، ففي كليهما لم يخرج المتظاهرون بشيء للأسف. فبينما أغلقت السفارة المصرية في كندا أبوابها تماماً أمام المتظاهرين رافضةً التعليق على مطالبهم، تفرق متظاهرو الأشجار بعد ساعات قليلة فقط من الاعتصام بعد أن هددتهم الشرطة بتوجيه تهمة التعدي على الممتلكات!