من وجهة النظر الأميركية كان طبيعيا أن تسعى إلى تقليص خسائرها في المنطقة، وتحد من تدهور نفوذها من تونس إلى لبنان إلى العراق. فإذا أصبح الرئيس مبارك عبئا عليها، فإن التضحية به أمر تمليه المصلحة لمنع تحول مصر إلى المعسكر المعادي للولايات المتحدة
أثارت السرعة التي تخلت فيها الولايات المتحدة عن الرئيس حسني مبارك استغراب الكثير من المراقبين. وعبر قادة إسرائيل خاصة عن القلق الذي بدأ يساورهم من جراء ما بدا من تخلي أميركا عن أحد أهم حلفائها. ووصف حكماء إسرائيل ردود فعل أميركا بأنها رصاصة في الظهر، ووصفوا قادة أميركا بالسذاجة والتهور، بل إن أميركا قد فقدت عقلها كما قال أحد الخبراء الإسرائيليين، وإنها تصب الوقود على النار التي أشعلها الرعاع في شوارع القاهرة. إلى غير ذلك من التعليقات الدبلوماسية التي تميز بها الإسرائيليون، الذين وصفوا الرئيس مبارك بأنه الصوت العاقل الوحيد في المنطقة.
وكان تخلي الولايات المتحدة عن القيادة المصرية شاملاً بقدر ما كان سريعا. فقد عبرت الإدارة والكونجرس على حد سواء عن قناعتهما، بدرجات متفاوتة، بضرورة التغيير السريع في القيادة، واتفق في ذلك الحزبان الديموقراطي والجمهوري. ومثل هذا الاتفاق نادر حقاً. بل إن من المفارقات أن المحافظين الجدد، وهم في أقصى اليمين، اتفقوا مع الليبراليين ومنظمات حقوق الإنسان، على اليسار السياسي، في دعم انتفاضة الشارع المصري. ولعلها المرة الأولى التي يختلف فيها المحافظون الجدد مع سياسة إسرائيل المعلنة في أي قضية من القضايا الهامة.
فماذا حدث؟ ولماذا تخلّت أميركا عن أحد أهم أركان سياستها في المنطقة؟
للإجابة عن ذلك يجب أن نتذكر أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد واجهت الفشل تلو الفشل منذ تسلم باراك أوباما الرئاسة في يناير 2009م، وخسرت الكثير من نفوذها ورصيدها الاستراتيجي. وهي لذلك لا تريد أن تفقد مصر بالكامل، فسارعت إلى حث مبارك على الرحيل، لعل ذلك يُبقي مصر في المعسكر الأميركي، ولذلك شجعت نقل سلطاته في أقرب فرصة ممكنة إلى مرشح تتوافق معه في التوجه الاستراتيجي لمصر، ويمنعها من التحول إلى خصم لسياساتها في المنطقة.
ونرى مظاهر هذا الفشل في المنطقة بأسرها. فقد جاء تحرك الشارع المصري بعد نجاح الشارع التونسي في إزاحة الرئيس زين العابدين بن علي من السلطة، وهو حليف آخر للولايات المتحدة، ولم تتضح الصورة بعد في تونس عن توجهها الخارجي بعد تغيير النظام، ولكن من المتوقع أن تراجع الحكومة التونسية مواقفها من الحليف الأميركي الذي أصبح جزءاً من تركة الرئيس السابق.
وفي العراق اضطرت الولايات المتحدة إلى تقاسم نفوذها مع إيران، بعد أن شنت حرباً كلفتها أرواح آلاف الجنود الأميركيين، بالإضافة إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار للإطاحة بصدام حسين ومحاولة إبقاء العراق حليفاً للولايات المتحدة. (انظر على سبيل المثال مقالي في الوطن، في شهر أبريل 2010، عن حرب الثلاثة تريليونات دولار).
وفي سورية، حاولت الإدارة الأميركية الجديدة انتهاج أسلوب جديد يختلف عن أسلوب إدارة بوش التي سعت إلى عزل سورية، وأرسلت سفيراً أميركيا للمرة الأولى منذ 2005م، وخطا الرئيس أوباما خطوة استثائية حين عين ريتشارد فورد سفيراً في دمشق، متجاوزاً الكونجرس الذي تلكأ كثيراً في الموافقة على تعيين سفير في سورية. ولكن هذه الخطوة الإيجابية نحو سورية لم تفلح في وقف تقلص النفوذ الأميركي. ففي لبنان، استطاع حلفاء إيران وسورية إسقاط حكومة الأغلبية، ويعتقد الأميركيون أن الحكومة الجديدة قد تدفع بلبنان إلى المعسكر المؤيد لإيران ومزيد من التهديد لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة.
وفي أفغانستان وباكستان، تخوض أميركا حرباً غير مضمونة النتائج ضد طالبان والقاعدة، وهي حرب لا تحظى بتأييد غالبية الشعب في أي من البلدين، وقد تؤدي إلى زعزعة قدرة حكومتيهما على الاستمرار.
وفي إسرائيل، الحليف الأميركي الأول في المنطقة، ترفض الحكومة علناً ودون أدنى تردد طلبات أميركا في إحياء مفاوضات السلام، أو وقف الاستيطان. وبدلاً من أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لتغيير موقفها، تخلت عن وساطتها، وقبلت على مضض الموقف الإسرائيلي.
وربما كانت هذا الفقرة الأخيرة، إحدى أهم الأسباب في تدهور النفوذ الأميركي، وإضعاف حلفائها في المنطقة، الذين كانوا يراهنون على أن الحكومة الأميركية الجديدة ستتبنّى سياسة أكثر توازناً تجاه إسرائيل.
ولذلك فإنه من الطبيعي أن أميركا، حين شعرت بأنها قد بدأت تفقد شيئاً كثيراً من نفوذها الاستراتيجي في المنطقة، سعت إلى تقليص خسائرها بأي طريقة كانت. فإذا كان الرئيس حسني مبارك يشكل عبئا على صانع السياسة الأميركية، فإن التضحية به أمر منطقي. وإذا كان التأخير في إعلان تأييدها لمطالب الشارع المصري قد يدفع بمصر إلى أحضان أعدائها، فإن من المصلحة أن تركب أميركا الموجة وتعلن موافقتها على تلك المطالب، على أمل أن تختصر فترة القلاقل وتسهم في انتقال سلس للسلطة لا يغير كثيراً في التوجه الاستراتيجي لمصر.
فهل تنجح الولايات المتحدة في الإبقاء على مصر ركيزة لسياستها في المنطقة؟ الجواب سيصنعه المصريون خلال الأيام القادمة.