يرى ابن خلدون أن تأسيس العلم يحتاج لثلاث دورات من القراءات:
الأولى مرور الكرام سطحية، والثانية تنقيحية تعرفية اكتشافية في محاولة لفهم ما بين السطور وتحت الكلام، وفي الثالثة أن لا يدع مغلقا إلا وفتحه، ولا عويصا إلا وفك مغاليقه، ولا مبهما إلا ويعرف سره.
وهي كما ذكرنا في الأكاديمية (العلم والسلم) عمل عشر سنين، حينها يبدأ الإنسان في تذوق (لذة الفهم) بتعبير الفيلسوف سبينوزا.
وهذا الرقم ينزل ويصعد؛ فقد يبقى شخص عشرين عاما فلا يصل، وهناك من عندهم ذلك الاستعداد الخفي، والهمة والمثابرة والذكاء والتطلع، من يختصرون الزمن ويحرقون المراحل، ولكن عددا من السنين لا مفر منه بسبب طبيعة العقل التخمرية.
يقول ابن خلدون في مقدمته (533) أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا، إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا، يلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها إنها هيأتها لفهم الفن وتحصيل مسائله.
ثم يرجع به إلى الفن ثانية؛ فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته.
ثم يرجع به وقد شدَّ فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثة تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك، بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه، وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا، يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه، ويكلفونه برعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مباديها، قبل أن يستعد لفهمها، ذلك أن قبول العلم والاستعدادات لفهمه ينشأ تدريجيا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وذلك على سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا، بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والاستعداد ثم في التحصيل، حتى يحيط بمسائل الفن.. اهـ
وبعد أن يشرح ما تقدم يخلص بقاعدة مهمة في علاقة الألفاظ بالمعاني وصناعة المنطق، ويقودنا إلى الحل فيما لو وقع الإشكال أن يطلق العاقل بنى الألفاظ ويذهب إلى شمس المعنى فيقنصها ثم يلبسها من قوالب الألفاظ وأثواب الكلمات ما شاء، وعند هذه الجملة تحصل مشاكل كثيرة من خلافات الناس، وعلى هذا المبدأ سار أيضا أبو حامد الغزالي في كتابه: المستصفى من أصول الفقه بأن من أراد توليد المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان مثله كمن يريد الشرق فيتجه إلى الغرب، وإنما يقرر أولا المعاني ثم يتبع المعاني الألفاظ، مثال ذلك كلمة شجرة، فهي تصور ذهني يمكن أن نسميه بالعربية شجرة على معنى مجرد وهي في الألمانية (باوم Baum) وهي بالإنجليزية (تري Tree).. وفي هذه النقطة الخطيرة يجب استيعاب جدلية اللغة ومعانيها.
أما تقرير المعاني، فهو حركة جدلية بين العقل والواقع والتاريخ في مثلث دينامي لا يكف عن الحركة والنضج والتتابع والتراكم، ومعادلة صارمة تشكل مفتاحا للوصول إلى درك الحقائق، (النص والقلم والكتابة ـ الواقع والأرضية ـ زمن الحدث والتاريخ والثقافة السائدة).